Site icon IMLebanon

أبعاد الصراع الإيراني – الإسرائيلي

 

الصراع الإيراني – الإسرائيلي ذو طبيعة خاصَّة باعتباره صِراعاً مُتعدِّد الأبعاد، ويَنظرُ إليه كل من الطرفين المتصارعين على أنه صراعاً وجوديًّا، ذو طابع إقليمي ودولي (إقليمي من حيث الجغرافيا ودولي من حيث الدُّول الضَّالعة فيه)؛ صراع تتحكَّم بمَسارهِ أبعادٌ إيديولوجيَّةٌ مُتناقضةٌ (إيديولوجيَّة صَهيونيَّة – يهودية، وأخرى إثنيَّة – فارسيَّة)، وهو صراعٌ على النُّفوذ في المِنطقة على نحو يستحيل التَّعايُشِ بينَهُما، كما أنه يجمع ما بين الحرب بالواسطة والمواجهة المُباشرة، وأخطرُ ما فيه تبعاتُهُ الجيوسياسيَّةُ على المُستويين الإقليمي والدَّولي.

إنه صراعٌ تحرِّكُهُ أحقاد دفينة، ما يدفع بكل طرف من أطرافه لتَسخير كل ما لديه من إمكاناتٍ لحسم الصِّراع إلى صالِحه، آخذاً بعين الاعتبار عوامل القوة ومواضع الضَّعف لدى الطَّرف الآخر، بحيث تستغلُّ إسرائيل تفوّقَّها العسكري والتِّكنولوجي وبخاصَّةٍ تفوّقها الجوي بما لديها من طَائرات حربية نَفاثة ومُسيَّرات متطورة وقبب حديديَّة متنوعة تمكنها مُجتمعة من إحكامِ هيمنتها الجويَّة في أجواء العدو كما توفِّرُ لها حماية فاعلةً لأرضِها تجاه الصَّواريخ والمُسيَّرات المعادية، هذا بالإضافةِ لتفوُّقِها الإستخباراتي تقنيًّا وبشريًّا، ما يمكّنها من القيام بضربات استباقية موجعة كاغتيالِ قياداتٍ سياسيَّةٍ وعَسكريَّةٍ أو الوصول إلى مواقِعَ حسَّاسة وحيويَّة واستهدافها. بدورها إيران، ورغبة منها في تحقيق توازن استراتيجي، أقدَمَت على إنشاء ما سُمِّيَ بمِحورِ المُقاومَةِ والذي ضمَّ كُلٍّ من حزب الله في لبنان والحوثيين في اليمن وعدد من الميليشيات في العراق، كما أحكمَت سيطرتَها على نظام الحُكم البعثي في سوريا، ما مكَّنها من إرباك إسرائيل بمناوشاتٍ عسكريَّةٍ وتوجيه ضَربات موجِعةٍ لها من دون أن تتورَّط مَعها بمواجَهةٍ مًباشرة.

 

لقد بقي الصِّراع ما بين الطَّرفين يقتَصِرُ على التَّهديدات المُتبادلَةِ إلى أن حدثت عمليَّة طوفات الأقصى التي أفلتت الأمور من عقالها، رأت إسرائيل أن العمليَّةَ تنطوي على تهديدٍ حقيقيٍّ يمسَّ بهيبَة جيشها ومُخابراتِها، الأمر الذي دفعها لإطلاق شرارةِ حربٍ مفتوحةِ بدأت بمعركةٍ غزَّة التي كان الغرض منها القضاء على قُدُرات حَماس وتهجير سًكان غزَّة، إلَّا أنه كان واضحاً أن أعين المسؤولين الصهاينة على إيران التي وصفها رئيس وزراء الإسرائيلي بأنها رأس الأفعى، والأخَطبوط تلميحاً لما لديها من أذرُعِ في كل من فلسطين المُحتلة ولبنان وسوريا والعراق واليمن، ولقيامها بدعمها لوجستيًّا وماليًّا وتسليحِها بما توفر لديها من أسلحة وتكنولوجيات ذكيَّة، هذا عدا تأمين الغطاء السياسي.

حرصت إسرائيل على إبقاء باقي الجَبهات تحت السَّيطرة، مُكتفيَةً بتنفيذ عمليَّات مضبوطة بعض الشيء، بحيث كانت تقتصرُ على اغتيالِ قياداتٍ أو استِهداف مراكزَ معيَّنة أو مقرَّات دبلوماسيَّة؛ ولكنها ما إن نجحت في تقويض القدرات العسكريَّةِ لمُنظَّمَةِ حَماس حتى استدارَت إلى الجبهة الشَّماليَّة مع لبنان، لتنهي، خلال أشهر معدودة على القدرات العسكريَّة والقتاليَّة لحزب الله، ممهّدة لذلك بعمليَّةٍ مُركَّبةِ استِخباراتياً عَسكريًّا، حيَّدت ما يزيد عن 4000 مقاتل عن أرض المعركة، واستكملت ذلك بتصفيَة مُعظم القيادات العسكريَّة والسِّياسيَّة بعمليات استخباراتية – عسكريَّة، حضَّرت لها على نحو متقن وحقَّقت نتائج غير متوقعة فاجأت بنتائجها حزب الله كما إيران وباقي مكونات محور المقاومة، إلى حد اضطُّرَّ الحزب للقبولِ بوقفِ إطلاقِ النار برعايَة أميركية – فرنسيَّة لم تلتزم بتطبيقِه إسرائيل لغايةِ الآن.

 

بعد إسقاط الحزب عسكرياً عملت إسرائيل بالإتفاق مع أميركا على إسقاطُ النِّظام البعثي في سوريا، وكان الغرض منه قطع خط الإمداد بصورة نهائية على الحزب وطرد إيران من سوريا والحؤول دون تمكين الحزب من إعادة بناء قدراته العسكريَّة، وبعد سقوطه دمّرت ما كان لديه من مخزون أسلحة، واحتلت قمة جبل حرمون وبعض الأراضي شرقه؛ واستكملت مُخطَّطها القائم على الاستفرادِ بأعدائها، متحوّلةً نحو اليمن واستَهدفت الحوثيون بضربات موجِعَة قوضت قُدراتِهِم إلى حد كبير، وأصبحت الأرضيَّة على مستوى المنطقة مُهيَّئةً لنقلِ المَعركَةِ إلى الدَّاخلِ الإيراني.

إسرائيل، التي يضع رئيس وزرائها نصبَ عينه هدفاً أساسيًّا يسَعى إلى تَحقيقِه منذ أن وصل إلى السُّلطةِ، ويتمثَّلُ في القضاء على المَشروع النَّووي الإيراني، والذي يرى فيه خطراً وجودياً لإسرائيل، لم ينجح منذ سنوات في إقناع الولايات المُتحدةِ الأميركيَّة في مُشاركتِهِ في تنفيذِ ضَربةٍ عَسكريَّةٍ تُنهي هذا المَشروع إلى حيث لا رجعة، كما لم ينجح في استدراج إيران إلى حلبةِ الصِّراع رغم استِفزازاتِهِ العسكريَّةِ المُتكرِّرَة لها، إلَّا أنَّه رأى بعودة ترامب إلى الرئاسَةِ الأميركيَّةِ فُرصَةِ سانحةٍ له لتَنفيذِ مأربِه، ويبدو أنه تم التَّوافُقُ بين الرئيسين المأخوذين بجنون العظمة والتَّسلُّط على إنهاء النُّفوذِ الإيراني تحت شِعارِ إنهاء المشروع النووي الإيراني، وأعلن الرئيس الأميركي أنه سيُعطي مهلة ستين يوماً للتَّفاوض.

 

استُغلَّت المُفاوضات التي جَرت ما بين موفدين أميركيين وآخرين إيرانيين من أجلِ تقطيع الوقت أولاً وبغرض حشر إيران في الزاوية لإرغامِها على إبداء تنازلات تغني عن خوضِ الحَرب، واللَّافت أن الأسبوع الأخير من المُهلَةِ المُنوَّه عنها شَهِدَ مُناورات تَضليليَّةٍ كان بطلَيها ترامب ونتنياهو، اللذان نجحا في إيهام إيران بأن لا قرار بعد باعتماد الخيار العسكري، ولكن ما إن انتقل عقربُ الساعة إلى تاريخ 13/6/2025 ليعلن أول أجل المهلة حتى كانت الطائرات الجويَّة الإسرائيليَّةُ في الأجواء الإيرانيَّة تنفذُ غاراتها، وبدأت الأخبار تنقل أنباء الاستهدافات على الأراضي الإيرانيَّة التي شملت جملة من الاغتيالات التي طاولت كبارَ القادة العَسكريين الإيرانيين، والرادارات والدِّفاعات الجوية ومنصات الصَّواريخ البعيدة المدى، فبدا واضحاً أن المعركة قد فتحت على مِصراعَيها ونُقلِت ساحَةِ القِتالِ إلى دَاخِلِ الأراضي الإيرانِيَّة.

الضَّرباتُ الأولى كانت موجعَةً لإيران، ومربكةً للقيادتين العسكريَّةِ والسياسيَّةِ فيها، وهدفت إلى إقحامها بالحرب فاقدةً للتَّوازن، إلَّا أن إيران استطاعَت إلى حد ما امتصاص الضَّربَة، واستعادت زمام الأمور بتعيين قادة بدلاء، وبدأت بإطلاق رشقاتٍ من المُسيّراتِ والصَّواريخِ البعيدةِ المدى باتجاه العُمقِ الإسرائيلي، مستعملة أنواع مختلف من المُسيّراتِ والصواريخ توزعت ما بين تقليديَّة وبالستية وفرط صوتيَّة، ومختلفةُ القُدرات التدميريَّة بحيث زوّدت بحشوات متفجرة تتراوح ما بين 300 كغ و2000 كغ، استطاعت الدِّفاعاتُ الجويَّة الإسرائيَّلةُ والأميركيَّة المُتطورة بما في ذلك المُنتشرة على امتداد منطقة الشرق الأوسط من إسقاط مُعظمِها، إلَّا أن ما وصلَ منها أصاب أهداف استراتيجيَّة وأحدث دمار غير مسبوق، في المقابل كانت إسرائيل تنهال بضرباتها الجويَّة عمق الأراضي الإيرانيَّة معتمدة أنواع مختلف من الأسلحة: قضف جوي بواسطة الطائرات النفاثة، قصف بواسطة مسيّرات، قصف صاروخي، عمليات كومندوس الخ… كشف حجمُ الاستِهدافات والخسائر حجم الخروقات الإستخباراتية للداخل الإيراني، وهذا ما تأكَّد بعد كشف أماكن عدَّة لتخزين وتصنيع المُسيّرات كما ضبط كميات كبيرة من الأسلحة المُهرّبَة إلى الداخل الإيراني، وتنفيذِ عملياتٍ ميدانيَّةٍ طالت بعض مِنصات إطلاقِ الصواريخ وبعض المراكز الحسَّاسة.

حجم الخسائر التي ألحقتها الضَّرابات الإسرائيليَّة بإيران خلال أسبوع غير مسبوقة، وطالت معظم المنشآت العسكرية الحيوية بما في ذلك المنشآت النَّوويَّة، ولكن في المُقابل إن الخسائرَ التي ألحَقتها الصواريخ الإيرانيَّة بإسرائيل لم تكن متوقَّعةً أو مألوفَة. الأمر الذي دفع ببعض قادة الكيان الإسرائيلي لاستِعجالِ التَّدخُّلِ الأميركي للحد استنزاف القُدرات الدفاعيَّةِ الإسرائيليَّةِ ولوضعِ حدٍّ لقدرة إيران على إطلاق الصَّواريخ، ولاعتقادِهم أن أميركا وحدها القادرة على توجيه ضربةٍ مُدمِّرةِ للمشروع النووي الإيراني، إلَّا أن الرئيس الأميركي لم يزل يوحي بأنه ميّالٌ لاعتمادِ الحلِّ التفاوضي، وإن يكن ليس بغرض وقف الأعمال القتاليَّةِ، إنما لدفع إيران للإستِسلام والخضوعِ للإملاءات الأميركيَّة.

تعلم إيران كما المتابعون لهذه الحرب أن أميركا شريكاً حقيقيًّا إلى جانب إسرائيل وإن كانت لغاية الآن مشاركاتها غير معلنة وتتم تحت الراية الإسرائيليَّة، ويعي المحللون العسكريون الإستراتيجيون أنه لا يمكن لأميركا أن تبقى على هذا الموقف، ولا بدَّ للمحللين الجيوسياسيين من أن يستقرؤون أن دخول الولايات المُتحدة الحرب علانيَةً مسألة وقت وهو أمرٌ مَحسوم لا مفرَّ منه، إلَّا أن دخولها العلني سيُغيُّر نمطيَّةَ الحرب وأدواتَها ونوعيَّة الأسلحة المُستعملَة، وربما تكون نتائجها التَّدميريَّة فوق التَّصورات؛ ومُخطئ من يرى أن الأميركيين جادين في التعويل على الحُلول الدبلوماسيَّة، لأن غاية هذه الحرب «إسقاط النِّظام الإيراني»، وأن نتائج العمليَّاتِ العسكريَّةِ وحدَها القادرةُ على تحقيقِ ذلك، من خِلالِ تهيئةِ الأرضيَّةِ لانتفاضةٍ شعبيَّةٍ داخليَّةٍ في وجه النِّظام، بحيث تُسقطُ الثورة بثورةٍ مُناهِضَة تُشاركُ فيها القِوى المُعارضَة.

الحرب إذاً مَعروفَةُ النتائج مُسبقاً، وهي بالطبع محسومةً لصالِحِ العدو الإسرائيلي المَدعوم غربيًّا والذي لن يُسمح بكسرِ شوكته وخسارته للحَرب، وتعلمُ إيران أن أميركا شريكةٌ في الحرب ورغم تجد نفسها مضطرَّة للتفاوضِ معها، وتعي أن الغرب لا يريدُ لها سوى الهزيمة ورغم ذلك تحاوره؛ إلَّا أن المسؤولون الإيرانيون يتناسون أنهم هم أنفسهم من وضع بلدهم في هذا المأزق، وعزلوا أنفسهم باعتِمادهم سياساتٍ عدائيَّةٍ تدخليَّة تجاه جيرانهم العرب، وبخاصَّة عندما تفاخروا بسيطرتهم على أربع عواصم عربيَّة، ولكونهم لم ينجحوا في بناء علاقات حسن جِوار مع الدول الشَّقيقةِ المجاورة لهم كباكستان وتركيا وأفغانستان وأوزباكستان؛ وهم يدركون من التوجس الغربي من تطلّعاتها النووية والصَّاروخيَّة.

كل المُؤشِّرات توحي بأن هذه الحرب مُستمرَّة إلى أن تتَحقق أهدافُها المرسومَةِ بشراكةٍ إسرائيليّة – أميركيَّة، ولأن من خَطَّطَ لها وقرَّرها مدركٌ لحَجمِ الإختلالِ في مَوازين القِوى على السَّاحتين الدَّوليًّةِ والإقليميَّة، لانكفاء الدَّور الروسي عالميًّا، ولعدم بلورةِ موقفٍ صينيٍّ حازمٍ تجاه المسائل المُثارة على السَّاحة الدَّوليَّة، ولغيابٍ الدورِ الفاعل وغير المنحاز للمنظمات الدَّوليَّة، ولافتقاد العالم لمنظماتٍ فاعلة كمنظمة دول عدم الانحياز. كل ذلك يدعونا لتسليطِ الضَّوء على مَخاطِرِ الحرب الدَّائرة على دولِ المِنطقَةِ كبيرُها وصَغيرُها، والتساؤل عمَّا إذا كانت القضيَّةُ الفلسطينيَّة ستكون أول ما يوضح بها!!! وماذا عن مُستقبلِ الأمَّةِ العربيَّة في ظلِّ عَصرِ الهَيمنةِ الإسرائيليَّة؟