في 18 نيسان 1983، اهتزّت بيروت على وقع انفجار مدوّ استهدف السفارة الأميركية في منطقة عين المريسة، مطلقاً واحدة من أكثر العمليات الإرهابية دموية في تاريخ لبنان الحديث. العملية التي أسفرت عن مقتل 63 شخصاً، بينهم 17 أميركياً، لم تكن مجرد هجوم على مبنى دبلوماسي، بل شكّلت منعطفاً سياسياً واستراتيجياً خطيراً. لقد دشّنت فعلياً تحالف الإرهاب الإيراني – السوري في لبنان، ورسّخت معادلة “الدولتين” التي لا يزال لبنان يعيش تحت وطأتها حتى اليوم.
نفّذ العملية انتحاري يقود شاحنة صغيرة محمّلة بحوالى طنين من مادة “تي إن تي”. دخل إلى باحة السفارة عند قرابة الساعة الواحدة ظهراً، وفجّر نفسه في الطابق السفلي من المبنى الرئيسي. الانفجار كان كارثياً، إذ أدى إلى انهيار الواجهة الأمامية للمبنى المؤلف من سبعة طوابق، وامتد الدمار إلى المباني المجاورة، كما أصيب أكثر من مئة شخص.
من بين أبرز الضحايا كان بوب إيمز، كبير ضباط وكالة الاستخبارات المركزية (CIA) لمنطقة الشرق الأوسط، إلى جانب الملحق العسكري الأميركي، ومسؤولين في وكالة التنمية الدولية، ولبنانيين كانوا يعملون في المبنى أو يمرّون في المنطقة. وللمفارقة، نجا المبعوث الرئاسي الأميركي فيليب حبيب من الحادث لأنه تأخر في اجتماعاته بالقصر الجمهوري.
تعود خلفية العملية إلى طبيعة المهمة الأميركية في لبنان آنذاك. فبعد الاجتياح الإسرائيلي عام 1982، كُلّف حبيب بقيادة مهمة دبلوماسية هدفها الأساسي انسحاب جميع القوات الأجنبية من لبنان دفعة واحدة: الإسرائيليون من الجنوب، السوريون من البقاع، ومنظمة التحرير من بيروت. كما كانت الخطة تشمل دعم الجيش اللبناني وإعادة بناء الدولة بمساعدة قوة حفظ سلام دولية بقيادة الولايات المتحدة.
إلا أن هذه المهمة اصطدمت مباشرة بالمصالح الاستراتيجية لكل من سوريا وإيران. فحافظ الأسد كان يسعى إلى تثبيت وجوده العسكري والسياسي في لبنان، بينما كانت طهران، بعد الثورة الإسلامية عام 1979، تعمل على تصدير “نموذج الثورة” إلى الخارج، ووجدت في الفوضى اللبنانية مدخلًا مثاليًا. سرعان ما دعمت إيران تشكيل نواة ميليشياوية تحوّلت لاحقًا إلى “حزب الله”، ممولة مباشرة من الحرس الثوري.
هكذا، لم يكن تفجير السفارة مجرد بداية لحملة إرهابية ضد المصالح الأميركية، بل شكّل لحظة مفصلية أنهت الدور الأميركي كوسيط وفاعل، وفتحت المجال واسعاً أمام مشروعين إقليميين متكاملين في السيطرة: المشروع السوري الذي فرض الوصاية السياسية والأمنية، والمشروع الإيراني الذي زرع دولة موازية داخل الدولة.
منذ تلك اللحظة، دخل لبنان مرحلة “الدولتين”: دولة شرعية بمؤسسات ضعيفة وجيش محدود، تقابلها دولة مسلّحة تتحرك وفق أجندة إيرانية – سورية، تفرض نفسها بالقوة وتحت شعار “المقاومة”. هذه الثنائية ليست طارئة؛ فهي امتداد لاتفاق القاهرة عام 1969 الذي سمح لمنظمة التحرير الفلسطينية باستخدام الأراضي اللبنانية، ومنها وُلد شعار “طريق القدس تمر من جونيه”، الذي استُنسخ لاحقاً في أدبيات “المقاومة الإسلامية”.
لكن النتيجة كانت واحدة: خرابٌ شامل للدولة دون أي مكسب لفلسطين. فقد شهد لبنان انهياراً اقتصادياً، وتهجيراً جماعياً، واغتيالات ممنهجة، وسط تفكك تام في البنية الوطنية. كل ذلك تم تسويغه بشعارات فضفاضة، لم تحمِ الكرامة، بل دمّرت المجتمع.
اليوم، وبعد اثنين وأربعين عاماً على التفجير، لا تزال آثاره السياسية والأمنية قائمة. فالوطن الذي بُني على أمل السيادة والمؤسسات، تحوّل إلى ساحة صراع للمحاور، وإلى مسرح دائم لحروب لا يملك قرارها. ومع ذلك، هناك فرصة جديدة للدبلوماسية الأميركية اليوم وبعد اتفاق وقف إطلاق النار بين الحكومة اللبنانية وإسرائيل أن تعيد لبنان إلى تموضعه الطبيعي، كدولة لا كساحة. لكنها فرصة مرهونة بإرادة لبنانية صلبة، وبقرار واضح: لا سلاح خارج الدولة.
ما زال السلاح الخارج عن الشرعية يحاول، ولو إعلامياً، أن يكون عقبة أمام بناء الدولة، مستأثراً بقرار الحرب والسلم، وكأن مجرى نهر الليطاني كُتب عليه أن يكون حداً فاصلاً بين الشرعية الدولية وشريعة الغاب.
ختاماً، ما كان يُروّج له تحت شعار “مقاومة لتحرير الأرض”، يتكشّف اليوم بوصفه مجرّد وهم. حتى أولئك الذين دافعوا يوماً عن “حزب الله”، باتوا يدركون أنهم وقعوا ضحايا خدعة كبرى. الحرب لم تُحرر، بل دمّرت. والسلاح لم يصن الكرامة، بل مزّق المجتمع وخطابه قد تحوّل إلى نشرة عناد ومكابرة.
