هل من صلة ما تربط بين الكشف عن «شبكة جونية« للدعارة في لبنان، وبين الكشف عن فضيحة «بنما ليكس« المالية العالمية؟ قد يبدو التساؤل ساذجاً للوهلة الأولى، ولكن إن أمعنّا النظر و«تجرّأنا« على المضي في عملية تفكيك الظاهرتين «الفضيحتين«، وإماطة اللثام عن العلائق والصلات، المباشرة وغير المباشرة بينهما، لأمكننا الوصول إلى نتيجة واضحة، لا تكشف عن الترابط القائم بينهما فحسب، بل تتعداها إلى الكشف عن صلاتهما معاً، مع عالم المافيا والجريمة وتجارة الممنوعات، السلاح والمخدرات والبشر، وصولاً إلى التداخل «النسيجي» بين هذه الظواهر جميعها وأنظمة الاستبداد المنتشرة في منطقتنا وفي بقية أرجاء العالم؟!
دعونا «نجازف« قليلاً، ونبدأ إذاً.
فقد يبدو الكشف عن أكبر شبكة للإتجار بالنساء (75 فتاة معظمهنّ يحملن الجنسية السورية) لأهداف جنسية، في محلة جونيه شمال العاصمة بيروت، واقعة منفصلة ولا صلة لها بما عداها.
من الطبيعي في مثل هذه الحالات، بحسب عرف الكثيرين، أن تتعرّض النساء المشتغلات في هذه «المهنة» إلى عمليات إجهاض، لكنه من غير الطبيعي، كما أعتقد، أن يتعرّضنّ إلى عمليات ضرب وتعذيب، نفسي وجسدي، وإجبارهن على ممارسة «الفاحشة« تحت تأثير التهديد بشتى الأساليب، فهذا يدلّ بجلاء على أنهنّ أُجْبِرن قسراً وكرهاً على ممارسة هذا الأمر، من غير إرادتهن.
كما أن النسوة اللواتي كن محتجزات في بيت الدعارة، كالرقيق، أغلبهنّ كنّ سوريات، وما يجري الآن في سوريا، أقل ما يقال فيه إنه ليس طبيعياً، وهو قد يكون أحد الأسباب الرئيسة التي دفعت أغلبهنّ، أو بعضهنَّ، للخضوع إلى عملية «الاتجار« بهنّ، وممارسة هذه المهنة.
كما أنّ المكان الذي تمّ فيه ضبط الواقعة هو لبنان، وهناك فئة من اللبنانيين تتدخل على نحو مفضوح في ما يجري في سوريا، وقد ساهم تدخّلها في تمديد وإدامة الصراع الدموي الجاري في هذا البلد. كما أن بعض أفراد هذه الفئة، على الأقل، يمارس دور «الميليشيا المسلحة« بكل امتياز في سوريا، وقد يكون لهم دورٌ ما في اختطاف وتسهيل ايصال بعض فتيات «شبكة جونية« إلى ما وصلن إليه، أو حتى افتراض «دفعهنّ إلى الانزلاق في مهاوي الرذيلة، وامتهان كرامتهنّ«.
ثمّ ما الفرق حقاً بين حال هؤلاء النسوة، وحال النساء «الإيزيديات« اللواتي تعرضنّ للسبي والاتجار بهن في العراق؟ لماذا ضجّ العالم ومجالسه الدولية كافة، بوسائل إعلامه كلّها، من أجل فئة من النساء ولم يفعل الشيء نفسه لأجل الأخرى؟ هل يتصل الأمر بالجنسية التي تنتمي إليهن «الضحايا«، أم بالجهة الخاطفة التي تقف خلف هذه الشبكات والممارسات؟ ثمّ ماذا لو جرى اكتشاف أن ثمة صلة ما بين الجهتين الخاطفتين والمسهّلتين للترويج لمثل هذه الشبكات، أي في العراق ولبنان، بحكم «طبيعة العمل» ذاته على الأقل؟!
أما الأموال التي تجنيها وتتحصّل عليها «المافيا» التي ترعى مثل هذه «الشبكات«، فهي أموال سوداء، ليست مالاً «حلالاً«، وهي تحتاج عادة إلى عملية «غسيل أو تبييض« لها، ومن يقوم بمثل هذا العمل، كما هو معروف، هي تلك الشركات، الحقيقية أو الوهمية، التي تتعامل مع «ملاذات ضريبية« آمنة، في بنما أو سواها من «الجنّات« الضريبية.
وهذا بدوره، يقودنا إلى فضيحة «أوراق بنما«، أو «بنما ليكس«، التي كشفت عن تورّط مسؤولين سياسيين كبار من مختلف بقاع العالم فيها، فضلاً عن بعض النجوم والرياضيين.. إلخ. هذا يعني، خصوصاً، «أثرياء الـ1% في العالم«، الذيم يمتلكون أكثر من 50% من ثروته، ومع ذلك، فهم «لم يلتزموا بقواعد اللعبة«. ويمكنني الافتراض أنّ مردّ ذلك، أو المهمّ في الأمر، ليس هو عمليات التهرّب الضريبي فحسب، التي قد تنطوي على مخالفات قانونية أو لا تنطوي، إنما المهمّ فيها هو ما قد تنطوي عليه من عمليات تهريب للثروة، وإخفاء لها وللطريقة التي تمّ من خلالها الحصول عليها، ومن ثمّ الهروب بها من أعين «الرقباء» المحتملين، أو طلباً لـ«السترة«، بعيداً من الأعين أيضاً، على طريقة «إذا ابتليتم بالمعاصي«!!
و«الأعين« المقصودة هنا قد تكون أعين «الشعب« أو «المعارضة«، إذ إن الأمر بمجمله يتعلّق بـ«تعاملات مالية سرّية« تحتاج إلى «ملاذ آمن، بعيداً عن العين«، كما يقال! وقد أظهرت وثائق الفضيحة أن «بعض الشركات متورطة، أو أنها تُستَغل، في ما يشتبه أنه عمليات غسل أموال وصفقات سلاح ومخدرات« إلى جانب التهرب الضريبي.
فالتعاملات المالية من خلال شركات «أوفشور« لا تعتبر غير قانونية بحد ذاتها، إلا أنه «يمكن استغلالها لإخفاء أصول، وتبييض أموال يمكن أن يكون مصدرها نشاطات إجرامية، أو إخفاء ثروة تم الحصول عليها بشكل غير قانوني«، كما جاء في التحقيقات المنشورة. وعلى ذلك، فقد جاءت كوريا الشمالية وسوريا وزيمبابوي وإيران وروسيا، في مقدمة الدول المشار إليها. وأوردت الأوراق أسماء 33 شخصاً وشركة على الأقل، مدرجين على قائمة وزارة الخارجية الأميركية السوداء، بسبب تعاملاتها مع كوريا الشمالية وإيران و«حزب الله«، وفق الاتحاد الدولي للصحافيين الاستقصائيين.
وقد أظهرت الوثائق أن بنوكاً وشركات ومساعدين مقربين من الرئيس الروسي «متورطين بتهريب أموال تزيد على ملياري دولار بمساعدة مصارف وشركات وهمية، وهو ما أكسبهم نفوذاً خفياً لدى وسائل الإعلام وشركات صناعة السيارات في روسيا«. ومن هنا، وعلى رغم كثرة المسؤولين الذين وردت أسماؤهم في هذه الوثائق، إلا أن «الكرملين« اعتبر أن هذه التسريبات تستهدف روسيا فقط، وخاصة الرئيس بوتين!
هل يصعب علينا، بعد هذا، الكشف عن «كُنْهِ« العلاقة الحقيقية التي تربط بين شخصيات مسيطرة على عواصم كبرى، عالمية وإقليمية، تجمعها صلات قربى «سياسية ونفعية«، أو «مافيوزية«، مع بقايا أنظمة الاستبداد في منطقتنا، التي أثبتت، على نحو سافر، أنها مستعدّة لحرق بلدانها وتفكيك عرى مجتمعاتها، في سبيل الدفاع عن سلطاتها و«أوبة« الفساد التي تحيط بها وتحميها؟! أليست الحروب الأهلية الدائرة هنا أو هناك، هي البيئة المثلى لازدهار الأنشطة والأعمال «القذرة« غير الشرعية، التي تدرّ أموالاً ومنافع كبرى على هؤلاء، من قبيل (تجارة السلاح والمخدرات و«الرقيق الأبيض«… الخ)؟
وهل ثمة ضير هنا، من الاعتماد على «سرديات« إيديولوجية كبرى، قومية أو إسلامية، ودعاوى سياسية «مبهرة«، من قبيل الحديث عن «مؤامرات كونية« تستهدف «أنظمة رفاهنا« الاجتماعي، ومحاربة «الإرهاب« والقوى التكفيرية، خاصّتنا، فهي دعاوى مخادعة ومضللة، يمكنها أن تشكّل قناعاً أو حجاباً مناسباً لإخفاء جوهر المصالح والمآرب الفعلية لأصحابها؟! فضلاً عن مساعدتها في «تجييش« عدد لا يستهان به من البشر، المستعدين أصلاً للقتل والموت، دفاعاً عن «صرماية« هذا الحاكم أو ذاك!
وأخيراً، هل كنت ساذجاً، أو «أتجنّى« على أحد، لا قدّر الله، حين أشرت أعلاه إلى صلة ما، حتى لو غير مباشرة، بين «شبكة جونية«، وبين فضيحة «بنما« وبعض أبطالها المحتملين؟!