Site icon IMLebanon

القرار بالحرب أو بالتهدئة بين لبنان وإسرائيل تحكمه توازنات إقليمية معقّدة

 

الجنوب بين الحياة والموت.. أعراس ومصطافون على وقع تحليق المسيّرات

 

 

بينما تُحلّق الطائرات المسيّرة الإسرائيلية ليلاً ونهاراً فوق القرى الجنوبية اللبنانية، وتُدوّي القذائف المدفعية في محيط البلدات الحدودية، يشهد الجنوب مشهداً متناقضاً، يكاد يلامس حدود العبثية، مصطافون يتنقلون بين المقاهي والمطاعم، وأعراس تُقام على وقع الزغاريد، بينما الخطر يزداد مع كل يوم.

في الجنوب، تتداخل الحياة اليومية مع احتمالات الانفجار الكبير، وتصبح الحياة تحت النار عنواناً لواقع يعكس حجم التحدّي الذي يواجهه السكان، بين رغبتهم في العيش الطبيعي، ومخاوفهم من أن تتحوّل هذه الحياة في لحظة إلى رماد.

منذ اندلاع الحرب في غزة عام 2023، يعيش جنوب لبنان حالة من الاستنزاف الأمني والاقتصادي، وباتت أي عملية خاطئة، أو استهداف غير محسوب، كفيلة بتوسيع رقعة الحرب. فالمخاطر لا تكمن فقط في تحليق الطائرات أو القصف، بل في تراكم التصعيد إلى درجة يصعب معها احتواء الموقف.

ورغم هذه الظروف، فإن جنوب لبنان لا يعيش فقط على وقع القذائف والتحليلات السياسية. ففي مدينة صور، وعلى الشاطئ الممتد جنوبها، تنشط المقاهي البحرية مع غروب الشمس، وتستقبل البلدات المرتفعة في قضاء جزين الزوار الباحثين عن ملاذ من صخب العاصمة، أو من الغربة القسرية، ولم يلغِ الناس حفلات زفافهم التي كانت مقررة منذ أشهر، بل على العكس، ازدادت الأعراس في موسم الصيف، وكأن أهل الجنوب قرّروا عن سابق إصرار أن يجعلوا من أفراحهم شكلًا من أشكال مقاومة الاضطراب المحيط بهم.

هذا القرار الحياتي لا يخلو من التحدّي، لكنه أيضاً يعكس نوعاً من الإنهاك الجماعي، فالسكان، الذين عايشوا حروباً متتالية في الأعوام 1978، و1982، و1993، و1996، و2006، باتوا يعرفون أن الحرب، إن وقعت، لن تستثني أحداً، وإن تأخّرت، فلن تعني بالضرورة أنهم بأمان.

من المعلوم أن الجنوب لم يعد مجرد جبهة لبنانية – إسرائيلية. بل هو اليوم جزء من الاشتباك الإقليمي الواسع، الذي يشمل طهران وصنعاء وبغداد وغزة، ويمتد إلى واشنطن وتل أبيب. وهو ما يزيد من تعقيد المشهد.

فالقرار بالحرب أو بالتهدئة لم يعد بيد اللاعبين المحليين فقط، بل تحكمه توازنات إقليمية معقّدة، وهذا ما يجعل السكان يعيشون في ظل ضباب كثيف من الاحتمالات.

أما على المستوى الاقتصادي، ففي الوقت الذي تظهر فيه مظاهر الحياة، تعاني القطاعات الاقتصادية في الجنوب من ضغط شديد، السياحة الداخلية تأثّرت رغم المحاولات لإنعاشها، والأسواق تشهد ركوداً موسمياً بعض الشيء.

الحركة في الأسواق، انخفضت مقارنة بالأعوام الماضية، فالناس تخاف أن تصرف أموالها، والجميع ينتظر ما ستؤول إليه الأوضاع. لا أحد يعرف إن كانت الحرب ستعود.

أما القطاع الزراعي فهو أيضاً يعاني، بعد أن تضررت مساحات من الأراضي بسبب القصف، في حين توقّف عدد من المزارعين عن استصلاح أراضيهم خوفاً من المخاطر الأمنية، خصوصا في تلك الأراضي المتاخمة للحدود، حيث تعرّض المزارعون الى التهديد، وفي بعض الأحيان الى الاستشهاد بفعل استهدافهم من قبل جيش العدو الإسرائيلي.

وفي ظل هذا الواقع، يبرز البُعد الإنساني كأكثر الجوانب حساسية، فهناك أكثر من 70 بلدة جنوبية شهدت نزوحا شاملا خلال الحرب الأخيرة، خاصة في المناطق القريبة من الحدود. ورغم عودة بعض السكان في الأشهر الأخيرة، إلّا أن أعداداً كبيرة من العائلات ما تزال تقيم في بيروت أو البقاع، أما بفعل ان منازلهم مهدّمة بالكامل، أو خوفا من القصف المتقطع وتحليق المسيّرات المستمر.

هكذا يبدو الجنوب اللبناني اليوم، جبهة مشتعلة باردة في آن، ناسها يحاولون العيش في ظل طائرات لا تفارق سمائهم، وقرى تسكنها المخاوف أكثر من سكانها أحياناً. بين الزفاف والدمار، المصايف والانفجارات، تقع الحقيقة الكاملة، الجنوب يعيش على حافة الموت.

ويبقى السؤال المعلّق في أذهان الجميع: هل ما نشهده اليوم هو لحظات هدوء تسبق العاصفة؟ أم أن هذا الصمود اليومي قادر على منع الانفجار الكبير؟

الجواب، كما يبدو، لا يزال في مكان آخر… ولكن الأثر الحقيقي سيظهر في مدن وقرى الجنوب التي قررت ألا تموت قبل أن تعيش.