دائماً، حين كان الشّرق يقع على حزمة الحزن ويذهب إلى النّعاس، ويوصد بابه المفقود، كان (الجنوب) لا يطفئ عينيه، ويستمرّ يحدّق إلى السّماء، ويمدّ يده إلى لغة القرآن العربيّة، ويعبر الطّرقات بلا ظلّ نحو المقاومة.
ودائماً، حين كان الشّرق يصبح ضنيناً بالشّعر، مولعاً بالتّرف، غنيًّا بالموت ومثقلاً بالصّمت، يفصح النّهر عن حكمتنا، ويفتح أعراس الماء على ضفّة النّهر، وتبدأ قيامتنا من ذلك المكان: (الجنوب) العصيّ نفسه.
هنا اجتمع أعيان جبل عامل عام 1783، وتداولوا في أمر بلادهم وما أصابها من بلاء، وأوجزوا فردّدوا:
إذا جئت القرى ألقيت فيها/ وطيس الجور يتقد اتقاداً
تبيت على الطوى غرثى وتمسي/ بلا رمق فتكتمل السهاد
فحتى م السكوت وقد غدونا/ على الغبراء نفترش القنادا
وهذه نار عسف الترك حاقت/ بنا طراً فأصبحنا رمادا
فمن للخيل يملؤها صهيلاً/ ومن للحرب يعركها جلادا
إذن، في ذلك العام 1783 اجتمع أعيان جبل عامل في (الجنوب) وقرّ رأيهم على قتال «أحمد باشا الجزار» الّذي أرهق البلاد والعباد.
وفي المكان، (الجنوب)، رفض إمام جبل عامل المقدّس السر العلّامة السيد عبد الحسين شرف الـدين أن تساق البلاد الى فتنة بين الطّوائف، وسعى لتوجيه المقاومين مطلع هذا القرن نحو الانتدابيين الّذين أرهقوا البلاد والعباد شأنهم شأن الجزار.
«الجزار» حاول قتل روح الثّورة في جبل عامل فلم يوفّق، فانتقم بتحويل مكتبات جبل عامل إلى وقود لأفران «عكّا».
وبعده حاول الانتدابيون قتل روح الثورة في نفس الجبل فلم يفلحوا وانتقموا باحراق مكتبة جبل عامل، ثمّ جاء الامام القائد السّيّد موسى الصدر، فحوّل الحرمان من حالة إلى حركة نابضة بالحياة وأشعل جذوة المقاومة:
«أنتم يا اخوتي الثّوّار مثل موج البحر متى توقّفتم انتهيتم».
قد يشعر أحد ممّا أقول أنّنا كأنّنا على أبواب حرب وشيكة. أقول لمن يتملكهم هذا الشّعور، وللّذين يملكون حسًّا سياسيًّا تجاه هذه المرحلة الدّقيقة، وتجاه من يملكون حسًّا متفوّقاً بالوقت، أقول لهم جميعاً، وأقول لأهلي في الجنوب: إنّنا أمام أخطر مرحلة في تاريخ الشّرق الأوسط ولبنان والجنوب خصوصاً.
وأنّ ما يجري في الواقع هو استكمال لحروب «إسرائيل» المستمرّة ضدّ لبنان، والّتي اتّخذت مؤخّراً «تاسك فورس جوّيّة» أنتجت الكثير من الموت والدّمار.
اليوم أقول: إنّ الإرادة الدّوليّة تعكس رغبة في تحقيق السّلام في الشّرق الأوسط، وأنّ العرب جميعاً، لديهم مصلحة استثنائيّة في السّلام، ولكنّ السّلام لا يمكن أن يتحقّق من طرف واحد وعلى حساب طرف واحد.
إنّ هذا السّلام يجب أن يكون متوازاناً وموازياً وشاملاً وعادلاً، والوقائع الثّابتة عن تصاعد وتيـرة العـدوان الإسرائيلي ضدّ لبنان، إلى جانب المماطلة والتّسويف وعمليّة كسب الوقت الّتي يتبعها (نتنياهو) وحكومته… يتطلّب الحذر والانتباه إلى أنّ «إسرائيل» ستواصل حروبها ضدّ لبنان، وجعل مدنه وبلداته وقراه حقل رماية بالذّخيرة القاتلة لاسلحتها المتنوّعة، خصوصاً الجوّيّة، للضّغط على بلدنا ومقاومتنا…
هذه ليست مقالة تحليليّة لواقعنا اليوم، بل مقتطفات من كلمة ألقاها الرّئيس نبيه برّي في افتتاح صرح تربويّ في بلدة «شحور» الجنوبيّة عام 1999، مع تعديل ببعض المفردات، (وضعت بين قوسين) لتذكير من خانتهم ذاكرتهم، أو الّذين يحلو لهم القفز فوق الحقائق، بأنّنا في حرب مفتوحة مع عدوّ توسعيّ منذ تأسيسه، وأنّ ما حلّ بنا ليس جديداً علينا، وأنّنا مع السّلام إذا توافرت شروطه، ومع الحرب إذا وضعنا بينها وبين وجودنا..
