وقف الرئيس جوزاف عون تحت قبة البرلمان، في يوم التنصيب، ليعلن فيما أعلن من أمور ومن مبادئ ومن استشرافات هامة، أنه رئيس المئوية الثانية، من عمر الجمهورية اللبنانية.
هذا الإعلان لم يكن أبدا على سبيل التذكّر، بل هو في سياق المراجعة للمئوية السابقة، والرجاء للمئوية اللاحقة. إذ أراد أن يذكّر، بما حملته تلك المئوية في برهة التأسيس، من أحداث جسام، أوقعت بالكيان الطري العود، وجعلته يتخبط بدمه ذات اليمين وذات الشمال، وجعلته أيضا يتعثر في تحقيق الطموحات التي كان يضعها نصب عينيه، من سيادة وحرية وعدالة وإستقلال، ومن مشروع نهضوي، خصوصا أن لبنان – النهضة، كان قد بدأ في عهد أبنائه النهضويين، ولم ينتظروا قيام دولة لبنان الكبير، لإعتبارهم، إنهم المؤسسون له، حال نهوضه بين أيديهم: دولة حرّة مستقلة، تضم إلى إمارة النهضة ومتصرفيتها، الأقضية الأربعة، فيكون لها شرف التأسيس، وشرف النهوض، بين البلدان الشقيقة المتعثرة، في الجوار الإقليمي.
فعلى أنقاض المئوية الأولى، وقف فخامة الرئيس، نافضا يديه من آثامها، ومما جنته على لبنان الوديع والجميل، في نهاياتها الأليمة، كأنه كان يقول: بدأوا من هناك، فلنبدأ من هنا.
عاش فخامة الرئيس إذن، النهايات الأليمة التي إنتهى إليها لبنان، في المئوية الراحلة. وجد فيها المخاض العسير، الذي أولد العهد الجديد الذي عقد له، وآل على نفسه أن يواكبها، بكل ما فيها من قطوع سياسية وإجتماعية ودولتية. أراد أن يقول أمام الجميع: إنه الآن يبدأ. لأنه منذ الآن يتحمّل المسؤولية. وهو يكرر على مسامع الجميع: إنها لمسؤولية جسيمة. وينظر عن يمينه وعن شماله، وهو أول رئيس من الجنوب، يقف على أنقاضه المحطمة. وربما كان يقول في نفسه: ماذا فعلتم بي؟ ماذا فعلتم بالوطن؟
فخامة الرئيس، في برهة التأسيس للمئوية الثانية، شديد الحرص على التأمّل فيما سبق، من عمر الجمهورية، وشديد الإصرار، على التحوّل لبناء الجمهورية الثانية، ما دام أن ماضي الجمهورية قد أيقظ فيه جذوة البناء وشعلة السيادة والحرية والعدالة الإجتماعية. وهو حتما لا يقبل أن يعود به الزمن إلى الوراء، وفي عينيه الأمل والرجاء.
تسلّم فخامة الرئيس من الشغور الرئاسي، لعامين ونصف العام، ولم يتسلم الرئاسة من الرئيس السابق، لأن لبنان كان غارقا في التخبط السياسي والإجتماعي والاقتصادي. وكانت المراهنات كلها، أو بعضها، على الإطاحة بالجمهورية. وفي اللحظة التي تولى فيها الرئاسة، كان لبنان ينتشل شهدائه من تحت الأنقاض، وكانت الحدود تشتعل بالنيران، وكان الدمار يحيق بالجنوب وبالعاصمة وبجميع المناطق التي كانت أهدافا للعدوان.
وحين يقول فخامته، إنه رئيس المئوية الثانية، فهو يعرف حتما، أين وصل العالم على مسوى الحريات والسيادة والعدالة والديمقراطية. وأن عليه أن يبدأ منذ برهة دخوله قصر بعبدا، على أن يعيد النور إلى صالاته وإلى غرف إجتماعاته. وأن يصل الليل بالنهار، ولا يتقاعس عن أداء واجب، أقسم عليه، في خطاب العهد و القسم.
أولوية الأولويات عنده، تحقيق الوعد بإزالة الإحتلال الإسرائيلي، وأيضا بإزالة ركام الجنون. وبموازاة ذلك، أن يجعل السلاح محصورا في يد السلطة الشرعية. والقاصي والداني يعرف، أن العدو الإسرائيلي، رهن الإنسحاب من كافة الأراضي اللبنانية، بأن يكون للدولة حق حصرية السلاح بيديها. وعلى هذا وقّع المسؤولون، عن إتفاق وقف النار، وأخذت له التعهدات. فتكون السيادة بذلك، تامة وناجزة، وليست منقوصة، لأن النقص في السيادة، يجرّ وبال النقصان بالإحتلال عليها، ويؤجل أو يبطئ الإنسحاب. فالرئيس يعد بالإنقلاب على المنقضي، وأنه لا يمثل إرادته في بناء الجمهورية الواعدة. وأما خطته القادمة، وجميع تعهداته المرتجاة من قبل جميع اللبنانيين، فهي قد أوردها مفصّلة في خطاب القسم ولا لبس فيها ولا إلتباس.
يهرع فخامة الرئيس فورا، بعد خطاب القسم، إلى ورش العمل، بعد أن كان سابقا، يهرع إلى الجبهات على الحدود لإطفاء النيران وكبح العدو عن أن يكمل طيشه وعدوانه على لبنان. يريد اليوم فخامته، أن يتوّج حياته، رجل إعمار في لبنان ورجل بناء وسلام، ورجل نهوض. ولهذا نراه يقطع مع الماضي في المئوية الراحلة، ويبشّر اللبنانيين، بأنه رجل المئوية الثانية. وهو إن وعد وفى. ومن أحرى منه أن يوقف الحرائق في لبنان، وينفح فيه نسائم الجنان.
* أستاذ في الجامعة اللبنانية
