ليست المرّة الأولى التي تشهد فيها علاقة رئيس الحكومة سعد الحريري مع رئيس الحزب التقدمي الاشتراكي وليد جنبلاط، انتكاسة سياسية شبيهة بالتي حصلت في الأيام الأخيرة، لأن مسيرة الزعيمين دائماً ما كانت تعبر مطبّات كبيرة سرعان ما تعود لتستقرّ على قاعدة تحالفها الاستراتيجي، لكنها المرّة الأولى التي يشعر فيها جنبلاط أنه مستهدف بما يمثّل وطنياً ودرزياً، عبر ثنائية الحريري ــ باسيل، التي عوّمت التسوية الرئاسية، وجعلت الأطراف الأخرى متوجسة من حيثياتها، لا سيما رئيس حزب القوات اللبنانية الدكتور سمير جعجع، ورئيس حزب «المردة» النائب السابق سليمان فرنجية.
من الطبيعي ألا تكون العلاقة سويّة بين جنبلاط والوزير جبران باسيل، فالأول لا يرى في الثاني، بحسب مصادر مطلعة على علاقة الطرفين، أكثر من مجازف سياسي، يستند الى مرجعية رئيس الجمهورية العماد ميشال في على رأس الدولة، ليكون صاحب القرار المطلق، لكن ما يفاجئ الزعيم الدرزي هو تماهي الحريري المطلق مع خيارات باسيل، حتى على حساب موقع رئاسة الحكومة ودورها في تركيبة السلطة ولعبة التوازنات الدقيقة التي تحكم البلد.
صحيح أن المساعي التي بذلها رئيس مجلس النواب نبيه برّي، نجحت في احتواء حرب التصريحات «التويترية» التي بلغت ذروتها بين الطرفين في الساعات الماضية، وترجم هذا الاحتواء بزيارة سريعة من مستشار الحريري الوزير السابق غطّاس خوري الى كليمنصو ولقائه الوزير وائل أبو فاعور، لكنّ تطويق الخلاف ووقف التصعيد، لم يردم الهوّة الآخذة في التوسّع بين بيت الوسط والمختارة، خصوصاً وأن رادارات جنبلاط الحساسة، التقطت إشارات غير مطمئنة عن نتائج لقاء الأسبوع الماضي الذي جمع الحريري وباسيل في السراي الحكومي، وفيها ما يشبه الاتفاق الناجز على تقاسم التعيينات مناصفة، بحيث يأخذ باسيل كل ما يريد في التعيينات الإدارية والقضائية والأمنية، وأن لا تقتصر حصته على المراكز المسيحية بل تطال المواقع الدرزية وحتى السنيّة أيضاً.
وكشفت مصادر مطلعة على أجواء لقاء السراي الحكومي، أن البيان الذي صدر بعد الاجتماع وتحدث عن إيجابية وتطابق في وجهات النظر، لا يعكس حقيقة الواقع، إذ أن الحريري بدا ممتعضاً من مقاربة باسيل لملف التعيينات، لسبيين الأول أنه كان صريحاً للغاية بأنه يريد الاستئثار بالحصّة المسيحية، وإرضاء حلفائه الدروز في هذه التعيينات، بحيث تكون المواقع الدرزية مناصفة بين الحزب الاشتراكي من جهة، والشخصيات الدرزية الأخرى، الممثلة بالنائب طلال ارسلان ووئام وهاب وفيصل الداود، وهو ما أثار غضب جنبلاط، الذي نعى التسوية برمتها، وشبّه ما يحصل بـ «صفقة القرن» في الداخل.
وبحسب المصادر القريبة من الحزب الاشتراكي، فإن باسيل «مارس عملية ابتزاز ضدّ الحريري شخصياً»، وقالت «عندما صارحه الحريري برغبته بمراعاة «القوات اللبنانية» وتيار «المردة» في التعيينات المنتظرة، ردّ باسيل بأنه مضطر أيضاً لمراعاة حلفائه في «اللقاء التشاوري» السنّي، وأن تكون لهم حصّتهم في المراكز السنيّة، وهو ما ضاعف القلق من تضحية الحريري بحلفائه، مقابل حصوله على المراكز السنيّة كاملة.
ورغم هذه المعلومات التي لم ينكرها أي طرف حتى الآن، ترى أوساط تيّار «المستقبل» أن جنبلاط «بالغ في الهجوم على الحريري، وبدل أن يأخذ تطمينات رئيس الحكومة عن عدم السماح باستهدافه في التعيينات على محمل الجدّ، واصل شخصياً حملته غير المبررة على رئيس الحكومة، محاولاً إظهار استسلام الحريري لخيارات باسيل». وشددت مصادر التيار الأزرق، على أن الحريري «لن يسمح بإقصاء أي مكوّن أساسي في التعيينات، لكن شرط أن تحصل هذه التعيينات على قاعدة معايير الكفاءة والنزاهة، وأن يجري اختيار الشخص الأفضل». وأوضحت أن «تمسّك الحريري بالتسوية ليست عامل ضعف أو تراجع، بل عامل قوّة لأن البلد أكثر حاجة اليوم الى تضافر جهود كلّ القوى السياسية، وأن يترجم ذلك بتضامن وزاري لتمرير استحقاقات مهمّة أولها إقرار الموازنة والشروع في تطبيق مقررات مؤتمر «سيدر» ومواجهة الأخطار الخارجية المتأتية عن صفقة القرن».
وعلى أهمية احتواء التصعيد وعدم السماح بضرب التحالف الاستراتيجي بين «المستقبل» والحزب التقدمي الاشتراكي، تخوّفت مصادر مقرّبة من النائب وليد جنبلاط، أن «تتحوّل التسوية السياسية غير المتكافئة الى صفقة مصالح». ورأت أن «ثمة سياسة خطيرة يتبعها باسيل، توحي بأنه ينسف اتفاق الطائف بالممارسة، بعدما عجز عن نسفه بالنصوص، وهذا أخطر ما نشهده في هذه المرحلة عبر فرض بدع وأعراف جديدة».
وفيما يستشعر جنبلاط أن بوادر الصفقات الجديدة ستظهر في التعيينات على حساب القوى الأخرى، ذكّرت المصادر المقربة منه أن «لبنان لا يحكم بأحادية أو ثناية، بل بالشراكة الحقيقية التي لا تلغي أحداً»، معتبرة أن «حكم الاستفراد جرّب أكثر من مرّة، وأثبت عقمه ودفع اللبنانيون أثماناً غالية بسببه». لم تخف المصادر أن هناك «تخليا ولو عن غير قصد عن صلاحيات رئيس الحكومة، كرأس للسلطة التنفيذية، داعية الحريري الى مراجعة سياسته، وتقييم تعاطيه مع باسيل على أسس مختلفة».
صحيح أن تطمينات «المستقبل» والقريبين من الحريري، لم تبدد هواجس الزعيم الدرزي، باعتبار أن الممارسة توحي العكس، الا رئيس مجلس النواب نبيه برّي أظهر مرّة جديدة أنه صمّام أمان التوازنات في البلاد، حيث أوضحت مصادر نيابية أن الأخير «متفهّم لقلق جنبلاط، ولن يسمح باستفراده أو تطويقه سواء في السياسية أو في التعيينات وغيرها». وشددت المصادر على أن برّي «لن يقبل بتهميش حليفيه الأساسيين، وليد جنبلاط وسليمان فرنجية، ولا حتى «القوات اللبنانية»، ولن يقبل بطغيان فريق على الآخر، لأن سياسة الاستقواء لا تولّد حلولاً بل تقود الى تشنجات تؤسس لخراب البلد».