من استمع إلى الكلمة التي ألقاها الرئيس السابق للحزب التقدمي الإشتراكي، وليد جنبلاط، خلال مؤتمره الصحفي الذي عقده في دارته في كليمنصو، الخميس 26 حزيران، يتوقع أن البيك يقف على حافة النهر ينتظر مرور الجثة، ولكن جثة من ينتظر؟
قال البيك الكثير في هذا المؤتمر، ومرّر الكثير من النصائح والرسائل، لا سيما في موضوعي السلاح وتسليمه، وموضوع «هوية» مزارع شبعا. فعلى ما يبدو الرسائل وصلت، ولكن لم يأخذ من وصلت إليه الرسائل بالنصائح، فهل هذا مؤشر على إن الحرب الثالثة على لبنان ستعود في جزئها الثاني؟ وإنّ الأرضية التي طالب بها الموفد الأميركي توماس باراك في زيارته الأولى إلى لبنان، لم تتهيأ بعد في زيارته الثانية المتوقعة مطلع شهر تموز القادم؟
لم يطبق القرار 1701 الذي أوقف الحرب في 27 تشرين الثاني الماضي، فبنوده تخرق يومياً من قبل إسرائيل عبر اعتداءاتها اليومية، وما شهدته منطقة النبطية في جنوب لبنان الواقعة جنوب نهر الليطاني صباح الجمعة 27 حزيران من سلسلة غارات أدّت لمقتل وجرح العشرات، دليل على ذلك. كما وإن الحزب أيضاً يخرق القرار من خلال إعادة تموضعه عسكرياً في شمال وجنوب نهر الليطاني، وما قال الأمين العام لحزب الله الشيخ نعيم قاسم الخميس أيضاً عن إن الحزب يعيد تنظيم صفوفه يُعتبر دلالة على ذلك.
قدّم جنبلاط نصيحة في شأن السلاح، قائلاً أنه «يجب أن يكون حصراً بيد الدولة» معتبراً أن «موضوع السلاح لا يقدّم أو يؤخّر في موضوع الإنسحاب الإسرائيلي من لبنان». لهذا دعا حزب الله وكافة الأحزاب اللبنانية وغير اللبنانية المقيمة على أرض لبنان التسريع في تسليم السلاح إلى المؤسسات الرسمية. وهذا ما بدأ تطبيقه من حزبه، إذ كشف البيك أنه أبلغ رئيس الجمهورية، جوزاف عون، بوجود سلاح في موقع ما في بلدة المختارة – الشوف، وطلب من الأجهزة الأمنية تولّي هذا الموضوع.
قارئ «جيد» يعتبر جنبلاط في التغييرات الجيوسياسية التي ترسم في المنطقة، حيث استشعر أن حرب الـ12 يوما بين إيران وإسرائيل، رغم أنها تعتبر من أقصر الحروب، لكنها حملت الكثير من الرسائل التي يجب أن تقرأ، لا سيما من جهة تحجيم النفوذ الإيراني في المنطقة، وليس فقط على صعيد ضرب برنامجها النووي. هذا ما أراد البيك إيصاله إلى الحزب على اعتبار أن السلاح في المخازن غير قابل للتجدد مستقبلا، وإنه أصبح قديماً نسبة إلى الأسلحة المتطورة والحديثة، وإن الحزب لم يعد قادرا على التغيير في المعادلات.
لم تعد نافعة تلك العبارة المكتوبة على اليافطة المعلقة على طريق المطار من إنّ «اليد التي تمدّ على سلاح الحزب ستقطع»، حيث قطعت الحرب الدائرة مصادر التمويل لحزب الله. فهو اليوم بات عاجزاً عن إعادة الإعمار، وإيران التي كلّفتها حربها مليارات الدولارات إضافة إلى العقوبات الاقتصادية المفروضة عليها، باتت عاجزة عن تقديم الدعم المالي واللوجسيتي، وإن «ممر السلاح»، تحديداً عبر سوريا بات شبه مقطوعاً.
عوامل كثيرة بنى عليها البيك في الوقوف خلف الدولة ومؤسساتها، وإن المشهدية القادمة تتجه نحو تطبيق المشروع الإبراهيمي، حيث على ما يبدو إن طرح البيك في ما يتعلق بـ«هوية» مزارع شبعا على اعتبار أنها ليست لبنانية الهدف منه سحب كافة الذرائع من حزب الله لإبقاء سلاحه. وهذا دليل أيضاً على تمهيد الطريق لا بل تعبيدها نحو التطبيع وترسيم الحدود البرية مع سوريا بنظامها الجديد.
رسم الأميركي الخطوط العريضة للمنطقة، ووضع أسسها التي عليها يعيد الرئيس الأميركي دونالد ترامب مشروع «صفقة القرن» في ولايته الأولى. وهو المشروع القائم على المشروع الأميركي في المنطقة، مع محاكاة هواجس الدول الأخرى. فأن يقول ترامب «الآن تستطيع الصين استيراد النفط الإيراني»، قولاً يبنى عليه، وأن يدخل ترامب في بازار الصفقات مع موسكو على اعتبار إيران مقابل أوكرانيا، ليس بالأمر البسيط، وأن يجد ترامب في زعماء دول الخليج العربي بأنّهم قادرون على لعب دوراً في تحديد المنطقة وسياساتها دلالة على إن ما كانت عليه طهران من نفوذ لعشرات السنوات بات من الماضي، وإن الهلال الشيعي انطفأ نوره في المنطقة.
لهذا، مهّد البيك الطريق أمام الحزب للانخراط في مشروع الدول، ورفض كافة أشكال الدويلات، ورفض ربط المصير والمسار بمحور لم يبقَ منه سوى نظام في طهران يسعى إلى «لملمة» سلطته المتهالكة. وإن الدخول في حرب جديدة (باتت قاب قوسين) مع الإسرائيلي لن يقدم في المعادلة من جديد، بل على العكس سيعمّق الفجوة بين الإصلاح والفوضى، ويدفع بالبلد أكثر نحو الهاوية.
ما قاله البيك قد قاله، وهذه الفرصة الأخيرة لحزب الله للانتقال من التنظيم العسكري العقائدي إلى التنظيم السياسي الوطني. لأنّ ما هو منتظر من الموفد الأميركي قد لا يصبّ في صالح هذا البلد الذي يرزح على حافة الانهيار، في حال لم يتمّ وضع الإصلاحات ولم يتم تنظيم السلاح بيد الدولة، فهل سيبقى الحزب رافضاً لقراءة أكثر واقعية للتغييرات الحاصلة في المنطقة ويدخل البلاد في حرب ستكون بمثابة الفصل الأخير فيها؟
