تاريخ الـ 16 من آذار 1977، كان بداية لعصر الاغتيالات في لبنان!!!
إنه اليوم الذي ودّع فيه اللبنانيون، رجلاً سياسياً إستثنائياً، لا يشبه سواه من الساسة التقليديين…
إنه كمال جنبلاط، المعلّم، والزعيم، والفيلسوف، والمفكر، والثائر، والمشاكس الجريء والشجاع…
ففي ذلك التاريخ المشؤوم، كان لقاؤه مع القدر والإغتيال!
وذلك عندما غادر بسيارته «المرسيدس» القصر القرميدي بالمختارة، حيث كان من يترصّدها في الطريق، وما إن وصلت ساحة بعقلين، منحدرة بإتجاه بيروت، حتى تكلم «الكلاشينكوف»، برصاصاته الغادرة الحقودة، وأسكت واحداً من أعلى الأصوات دوياً في لبنان!!!
يُنقل عن مقرّبين من الشهيد كمال جنبلاط، أنه كان في قرارة نفسه يتوقع إغتياله، لا بل كان ينتظره في أي وقت(!) خصوصاً بعد أن تعرّض منزله في بيروت إلى حادث إنفجار قبل شهرين من إغتياله، كما كانت جرت محاولة مماثلة في 26 أيلول عام 1976، فيما كان عائداً من لقاء جمعه مع الرئيس المنتخب بدعم سوري إلياس سركيس.
ومردّ هاجس الإغتيال الذي خيّم على جنبلاط، يعود إلى اللقاء «العاصف» والأخير الذي جمعه بالرئيس السوري حافظ الأسد، حيث نسجت روايات كثيرة حول هذا اللقاء، الذي يقال إنه دام سبع ساعات، وإنتهى بخروج جنبلاط متوتراً من دون أن يودّع الأسد أو يصافحه!!!
كما أن الشهيد جنبلاط كانت تصله في موازة ذلك، معلومات من أصدقاء مشتركين بينه وبين الأسد، أن الأخير يحمّله مسؤولية الحرب في لبنان، وكان يستفيض أمام زواره اللبنانيين في إظهار غضبه على كمال جنبلاط، مع تأكيده على أنه تم عزله سياسياً، وأوصدت كل الأبواب في وجهه، ولن تجدي كل محاولاته لإعادة فتحها!!!
كان كمال جنبلاط يسعى إلى جمع اللبنانيين المتحررين من كل وصاية وارتهان، حتى للحزب نفسه إذا تعارض مع مصلحة الإنسان حول مشروعه الوطني.
فقد شكّل كمال جنبلاط خلال مسيرته السياسية نموذجا استثنائيا في العمل السياسي، وكان الأكثر قدرة على القيادة والتأثير في الأحدات إذ ترك بصمات بقيت العلامة الفارقة في تاريخ لبنان الحديث.
كما عرف كمال جنبلاط كيف يحطم القيد الطائفي ويخرج من العباءة التقليدية، ويبني حزباً تقدمياً اشتراكياً ينخرط في الحداثة ويجعل من «الإنسان» محور العملية السياسية، حيث تمكّن من خلال الانسجام بين ممارسته السياسية وما آمن به من مبادئ أن يقود نضالا من أجل تعزيز وحماية الحريات وتحرير اللبنانيين من عبودية نظام الامتيازات الطائفية، حيث أسقط خلال مسيرته رؤساء وأتى بآخرين، وقاد ثورات، وفي اللحظة السياسية التي تطلبت حماية المصالح الوطنية العليا، لم يتأخّر في عقد التسويات التي كان يرى فيها الفرصة لإعادة الاعتبار للمساحات المشتركة والسير في بناء مستقبل أفضل.
مهما اختلفت النظرة السياسية تجاه كمال جنبلاط، إلّا أنّه لا يمكن إلّا أن يشهد له، بأنه ولد في بيت إقطاعي كبير، وورث الزعامة بفعل هذا النموذج الإقطاعي، إلّا أنّه سعى أن يغلق معه باب الماضي الإقطاعي، عندما قال بعد أن دفن والدته، بأنه يدفن معها آخر إقطاعي في عائلته.
دخل في الحداثة، التي كان يشهدها المجتمع الدولي منذ الحرب العالميّة الثانيّة وما بعدها، فمارس قناعاته الفكريّة المستمدة من فلسفته الروحيّة والإنسانيّة. لم يختلف عن قادة زمانه في ذلك العصر، عصر الصراع الإيديولوجي، فبين الرأسماليّة والإمبريالية وحركات التحرر التي قامت في دول آسيا وإفريقيا وبعض العالم العربي، إنحاز كمال جنبلاط إلى حركات التحرر، وإتخذ موقفا فكريا واضحا إلى جانب قضايا الإنسان والحريات والعدالة.
وهذا ما دفعه إلى إنشاء حزباً سياسياً، منحه فكره وعلمه وفلسفته، متبعاً نماذج الكبار من أمثال غاندي، وجواهر لال نهرو، وجمال عبد الناصر…
ويبقى البرنامج السياسي المرحلي للحركة الوطنية اللبنانية، الذي اعلنه كمال جنبلاط في 15 آب 1975 يشكّل الوثيقة السياسية الإصلاحية الأبرز والأهم في محاكاته لأسباب الأزمة على الأصعدة الوطنية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية، وسبل الخروج منها، من خلال إعادة تجديد النظام السياسي اللبناني على أسس ومرتكزات وطنية تقوم على الحداثة والعصرنة.
بعد 48 عاماً على جريمة إغتيال «المعلم»، وككل الجرائم السياسية التي تنفذ بأدوات عسكرية – أمنية، لم يصدر أي قرار حول الجناة الحقيقيين، وبقيت القضية طي الكتمان في ادراج الدولة اللبنانية، وخاصة في ظل عدم تقديم الجناة للمحاكمة، رغم وجود الكثير من الشهود والأدلة!!!
وفي هذا الإطار كان يقول نجل الشهيد، زعيم الحزب التقدمي الإشتراكي منذ سنوات: «التحقيق» وصل إلى أن مكتب المخابرات السورية في بيروت، وهو الذي قام بعملية الإغتيال، الذي كان يترأسه إبراهيم حويجة…
إلّا أن ذكرى إغتيال «المعلم» هذا العام، مختلفة عن سابقاتها، إذ أنه وفي تطور لافت، أعلنت السلطات السورية اعتقال اللواء إبراهيم حويجة، الرئيس السابق للمخابرات العامة، والمتهم بالضلوع في الاغتيال. هذا التطور، دفع الزعيم وليد جنبلاط للإعلان عن انتهاء تقليد ذكرى اغتيال والده: «بعدما أخذت عدالة التاريخ مجراها»، وذلك في احتفال شعبي أحياه الحزب في المختارة، في الذكرى الـ48 لاغتياله على يد النظام السوري السابق، خلال الاحتفال الذي حمل عنوان «صبرنا وصمدنا وانتصرنا»، داعياً إلى ورشة فكرية تنظيمية استثنائية من أصحاب الشأن، للتمسّك بمبادئ الشهيد.
لعلّ هذه الدعوة من قبل وليد جنبلاط لتنظيم ورش فكرية، تكون أقرب الى مؤتمر وطني جامع لكل القوى السياسية على إختلاف مشاربها لإجراء مناقشة علمية موضوعية هادئة للبرنامج المرحلي، في ظل ازمة سياسية واقتصادية وكيانية غير مسبوقة، وفي ضوء التحديات التي يواجهها لبنان على الصعد المختلفة، وذلك لتفحص مضمون هذا المشروع وصلاحيته في هذا الزمن والأهداف التي وقفت وراء ضربه، والتداعيات التي ما زال لبنان يعيشها بغياب أية أفق للإصلاح السياسي والاقتصادي والاجتماعي الذي كان يشكّل العمود الفقري لمشروع كمال جنبلاط، لعل مثل تلك الورشة تصحح المفاهيم الخاطئة للسلطة ودورها في بناء وقيادة الدولة والشعب، على أساس الوطنية والمواطنة.
فإذا كان تاريخ الـ 16 من آذار 1977، كان بداية لعصر الاغتيالات في لبنان! فليكن تاريخ 16 آذار 2025، بداية لعصر بناء الدولة المركزية القوية التي تلبي تطلعات كل اللبنانيين، وتشكّل الحاضنة الوطنية لهم جميعا، إنطلاقاً من المبادئ التي إستشهد في سبيلها كمال جنبلاط.
