يجهد حزب «الكتائب» في هذه المرحلة للتمظهر في صورة مغايرة لتلك السابقة وحتى القديمة قبل سنوات طويلة التي تُذكر الجمهور بذلك الحزب اليميني المتطرف الذي حمل السلاح وتورط به كرمى لطائفته. هكذا هو الحزب في ولادته الثانية على يد رئيسه سامي الجميل الذي يحاول جاهدا التماهي مع مشاعر الناس الساخطة على الطبقة السياسية التي شكل «الكتائب» نفسه أحد أركانها في السابق ويحاول اليوم خلع ثوبها.
ولعل الفرصة الاهم للجميل وللحزب وفرها تاريخ 17 تشرين حين سارع الحزب الى التماهي معه والحلول ركنا جديدا في «الثورة» على المنظومة الحاكمة وخاصة العهد، وأيضا عبر تجييش التأييد الكبير على وقع شعار «رفض السلاح غير الشرعي».
أما في هذه اللحظات فقد سارع الحزب الى مساندة البطريركية المارونية في دعوتها الى مؤتمر دولي لمعالجة الازمة اللبنانية، ولعله الحزب الكبير الوحيد الذي كانت له مواقف متماسكة تجاه هذا الموضوع.
لا يضير «الكتائب» وصم دعوته بـ«التدويل» وهي تهمة يردها عكسيا نحو منتقديه في «المحور الممانع». «فالتدويل حاصل فعلا عبر ميليشيا «حزب الله» المسلحة التي دوّلت القضية وتقرر خوض حرب في سوريا وتبعث بـ«خبراء» الى اليمن والبحرين وتخوض صراعا مع الخليج وتقول علنا إن اموالها وتسليحها من ايران». ينطلق «الكتائبيون» من وجهة النظر هذه للدفاع عن تدويل تكبر المطالبة به ويتجمع تأييده حول بكركي من دون تحديد طبيعته حتى الساعة بين المطالبة بتدخل دولي أو وصاية على لبنان. لكنه في كل الاحوال تدويل في وجه «محور الممانعة في المنطقة المواجه للغرب وتريد عبره إيران وضع اليد على أربع عواصم عربية وصولا الى حلف مع فنزويلا…».
ولبنانيا تتركز حرب الحزب على «تحالف الحكم والميليشيا، أي السلاح والمافيا الذي تشكله طبقة سياسية تتقاسم الحصص. والمعركة هي الاستكمال لمفهوم الحياد وليس دفع لبنان الى محور آخر مع الغرب. لكن المفهوم هنا ان لبنان هو دولة مستقلة لديها اصدقاء في العالم كما مع الخليج واوروبا وأميركا». وبذلك يحاول «الكتائبيون» رمي كرة التدويل في مرمى «الممانعين» الذين يطلبون المساعدة من الخارج ويريدون العملة الصعبة من «صندوق النقد الدولي» الذي يموله الغرب وخاصة اميركا كما من الخليج، وينتظرون ما ستسفر عنه المفاوضات الاميركية الايرانية لتشكيل الحكومة، على حد تعبير الرواية «الكتائبية».
انطلاقا من كل ذلك يؤيد هؤلاء اقامة المؤتمر الدولي الذي نادى به البطريرك الماروني بشارة الراعي في وجه «التفجير والقتل والتهجير والاغتيالات منذ العام 2005 وخاصة بعد تفجير المرفأ حيث لا محاكمة ولا تحقيق ولا نتائج».
سقط للحزب «شهيدان» في السنوات الاخيرة هما بيار الجميل وانطوان غانم. الاول هو نجل زعيم الحزب رئيس الجمهورية الاسبق امين الجميل الذي لا يملك الحزب أي معطى في التحقيق حول اغتياله وهو ما يدفعه الى طلب مساعدة «اصدقاء لبنان لاستعادة السيادة والاستقلال». الحزب الذي يرفض أي وصاية على لبنان، تمكن من المزايدة شعبيا في وجه «شقيقه اللدود» حزب «القوات اللبنانية»، وهو حتى اتخذ موقفا اكثر حدة من رئاسة الجمهورية والعهد الذي يزايد مسيحيا هو الآخر.
وفي وجه المزايدة عليهم يتوقف «الكتائبيون» امام الهجرتين الكبريين عند المسيحيين في لبنان الى الخارج. وكانت اولاهما في العام 1989 خلال «حرب التحرير» التي أعلنها العماد ميشال عون، وثانيها خلال عهد عون نفسه رئيسا للجمهورية. والمعركة اليوم واحدة فالعهد و«حزب الله» هما طرف واحد بالنسبة الى «الكتائبيين». فالسلاح الذي تمخض عن وحدانيته بعد اتفاق الطائف، بات لزاما طرحه في المؤتمر الدولي الذي لن يعقد من دون هذه القضية.
يعلم الاقطاب المسيحيون ومنهم «الكتائب» ان الظروف لن تعود الى ما كانت عليه ماضيا. وفي ظل كل المتغيرات الحاصلة لا يمانع هؤلاء طرح كل القضايا على بساط البحث وحتى اعادة النظر ببعض الامور في الدولة مثل الدولة المدنية واجراء انتخابات خارج القيد الطائفي واللامركزية الموسعة، لكن شرط بحث موضوع السلاح والهاجس الاكبر يبقى في قضية المثالثة التي يتهمون «حزب الله» وحلفائه بالعمل سرّا عليها.
لا تأييد لعون في تشكيل الحكومة
مع تراجع شعبية العهد و«التيار الوطني الحر»، قد يكون مستبعدا ان يكون «الكتائب» قد اقتنص شرائح شعبية واسعة أيدت انتفاضة 17 تشرين، لكن الفرصة قائمة وانطلاقا منها يردد الحزب الدعوة الى انتخابات مبكرة تشوبها سلبية عدم دعوة الحزب الى قانون اكثر عدالة وهو شرع في فتح للخطوط حتى مع اخصام تاريخيين واجهوه خلال سني الحرب الاهلية على قاعدة تأييد «الثورة».
ومن هنا يرفض «الكتائبيون» اسقاط رئيس الجمهورية وهم يعلمون أصلا صعوبتها، فتغيير النظام يتم خطوة خطوة عبر مجلس نيابي جديد يتمخض عنه التغيير. لكن المواجهة مع الرئيس عون ستبقى على طول الخط وعبرها لا يؤيد الحزب المزايدة العونية في موضوع تشكيل الحكومة فهي ليست حسبهم معركة صلاحيات بل استثمارا لشعبية ضيقة خاصة بالعهد والتيار. وهو بذلك يتقاطع بموقفه مع «القوات اللبنانية» لا بل بدا موقفه اكثر تماسكا منها.
على ان الحزب الذي كان مقررا في الماضي للسياسة اللبنانية في بعض المراحل التاريخية، يبدو اليوم امام تحدي البقاء والتوسع خارج عرينه المتني في واحدة من المراحل المفصلية في التاريخ المسيحي واللبناني.
