يشهد لبنان في هذه الأيام حدثاً سياسياً يثير ضجة واسعة على المستويين الداخلي والخارجي، يتمثّل في زيارة أمين المجلس الأعلى للأمن القومي الإيراني، علي لاريجاني، إلى بيروت. ورغم أن الزيارة أدرجت رسمياً في الإطار الدبلوماسي، فإن توقيتها وطبيعة الرسائل التي حملتها جعلاها تبدو، في نظر شريحة واسعة من اللبنانيين، أشبه بمحاولة تدخّل مباشر في القرارات السيادية اللبنانية، في ظل ظرف داخلي وإقليمي معقّد.
تتزامن زيارة لاريجاني مع احتدام النقاش الداخلي حول تنفيذ قرار الحكومة اللبنانية، برئاسة الدكتور نواف سلام، القاضي بنزع سلاح حزب الله خلال فترة زمنية محددة. هذا القرار، الذي يمثّل خطوة جريئة في مسار تعزيز سلطة الدولة، يقابل بموقف إيراني صريح رافض، عبّر عنه أكثر من مسؤول في طهران. وبذلك، تحمل الزيارة بُعداً يتجاوز المجاملة الدبلوماسية، لتتحوّل إلى رسالة سياسية واضحة المعالم، حيث إيران تعتبر نفسها طرفاً مقرّراً في ملف السلاح في لبنان.
المفارقة أن هذا التوقيت يتزامن أيضاً مع ارتفاع حدّة المواجهة السياسية بين واشنطن وطهران في المنطقة، بدءاً من الملف النووي، مروراً بالوجود الإيراني في اليمن والعراق، وصولاً إلى ساحة لبنان التي لطالما اعتُبرت ورقة ضغط إيرانية في أي مفاوضات إقليمية أو دولية.
وعموماً، منذ نهاية الحرب الأهلية، شكّل لبنان في نظر طهران جزءاً من شبكة نفوذ إقليمية تعتمد على تحالفات عسكرية وسياسية، وفي مقدمتها حزب الله. وفي المقابل، ترى الولايات المتحدة وحلفاؤها أن هذا النفوذ الإيراني يهدّد استقرار الدولة اللبنانية ويحول دون استقلال قرارها. بالتالي، فإن زيارة لاريجاني لا يمكن فصلها عن هذا الصراع الأكبر. فهي تأتي في إطار سباق محموم بين القوى الإقليمية والدولية على توجيه بوصلة القرار اللبناني. فبالنسبة لإيران، يمثل حزب الله عنصراً أساسياً في استراتيجيتها الدفاعية والهجومية على السواء، بينما ترى الحكومة اللبنانية ومعظم المجتمع الدولي أن حصر السلاح بيد الدولة هو الطريق الوحيد لضمان الاستقرار.
لم تكن هذه الزيارة سابقة من نوعها. فقد درجت طهران على التعليق على القرارات اللبنانية الداخلية، وخصوصاً تلك المتعلقة بالأمن والدفاع، وكأنها شأن إيراني داخلي. هذا السلوك عزّز الشعور لدى كثير من اللبنانيين بأن بلادهم أصبحت رهينة لأجندات إقليمية، وأن القرار السيادي غالباً ما يتم تجاوزه أو تقويضه لصالح مصالح خارجية.
أما على المدى الطويل، فيؤدي هذا النمط من التدخّل إلى إضعاف مؤسسات الدولة، ويعمّق الانقسام الداخلي، ويزيد من عزلة لبنان على الساحة الدولية. فالاستقرار لا يتحقق في ظل ازدواجية القرار العسكري والسياسي، ولا يمكن لدولة أن تحافظ على سيادتها إذا كان طرف خارجي يملك قدرة التعطيل أو الفرض.
كذلك، فإن الملف الأكثر حساسية في هذه المعادلة هو سلاح حزب الله. فبالنسبة لإيران، هذا السلاح ليس مجرد أداة للدفاع عن لبنان، بل هو ورقة استراتيجية ضمن مشروعها الأوسع في المنطقة، يمكن استخدامها للضغط على خصومها أو للتأثير في مسار المفاوضات. أما بالنسبة للبنان، فإن استمرار هذا السلاح خارج سلطة الدولة يعني بقاء البلاد في دائرة الخطر، حيث يمكن لأي تطور إقليمي أن يجرّها إلى مواجهة عسكرية لا قرار لها فيها.
إن التجربة خلال العقود الأخيرة أظهرت أن هذا السلاح، بدلاً من أن يكون ضمانة للأمن، أدّى إلى استهداف البنية التحتية اللبنانية في أكثر من حرب، وتسبّب في خسائر بشرية ومادية فادحة، فضلاً عن تأثيره السلبي على الاقتصاد والاستثمار.
أضف إلى أنه من الناحية القانونية، يشكّل الموقف الإيراني مخالفة واضحة لمبادئ القانون الدولي وميثاق الأمم المتحدة، الذي يؤكد على المساواة في السيادة بين الدول وعدم التدخّل في شؤونها الداخلية. كما أن إعلان مبادئ القانون الدولي لعام 1970 يضيف بوضوح أن أي قرارا سياسيا أو أمنيا يجب أن ينبع من الإرادة الحرّة لشعب الدولة المعنية، دون ضغوط أو تهديدات خارجية. وبالتالي، فإن إصرار طهران على رفض القرارات اللبنانية السيادية، والتدخّل العلني في ملفاتها، يضعها في مواجهة مع هذه المبادئ، ويمنح لبنان حجّة قوية للتمسّك بحقه في الدفاع عن استقلالية قراره السياسي والعسكري.
ومن منظور سياسي استراتيجي، لا يمكن قراءة زيارة علي لاريجاني إلى بيروت بمعزل عن التحركات الإيرانية المتزامنة في العراق واليمن. فإيران، التي تدرك تراجع هوامشها في الملف النووي وتصاعد الضغوط الاقتصادية عليها، تعمد إلى إعادة تثبيت حضورها في ساحات نفوذها التقليدية، عبر سلسلة من التحركات السياسية والعسكرية المنسقة.
في العراق، تعمل طهران على تحصين نفوذها داخل مؤسسات الدولة عبر الحشد الشعبي، وفي سوريا تواصل مساعيها لدعم القوى المعارضة للنظام الجديد، بينما في اليمن ترفع مستوى الدعم للحوثيين كورقة ضغط على السعودية والإمارات. هذه الساحات الأربع – العراق، سوريا، لبنان، واليمن – تشكّل ما يُعرف في الدوائر الأمنية الغربية بـ«هلال النفوذ الإيراني»، وهو الإطار الجيوسياسي الذي يمنح طهران القدرة على ممارسة ضغط متعدد الاتجاهات على خصومها.
في هذا السياق، يصبح لبنان ليس مجرد دولة صغيرة في شرق المتوسط، بل عقدة استراتيجية في مشروع الربط بين الخليج والبحر المتوسط، وهو ما يجعل أي قرار لبناني مستقل عن هذا المحور بمثابة تهديد مباشر لجزء من البنية الأمنية الإيرانية في المنطقة.
وعليه، تكون زيارة لاريجاني، وفق هذه القراءة، ليست فقط محاولة للتأثير على ملف سلاح حزب الله، بل أيضا رسالة إلى القوى الإقليمية والدولية بأن إيران لا تزال ممسكة بخيوط اللعبة في لبنان، وأن أي تسوية أو مواجهة في المنطقة لا يمكن أن تتم من دون أخذ مصالحها في الحسبان.
لكن المفارقة أن هذه الزيارة، بما رافقها من رفض لبناني واسع، قد تكشف لإيران أن استثمارها في هذه الساحة يواجه تحدّياً داخلياً غير مسبوق، وأن هامش مناورتها بدأ يضيق بفعل الضغط الشعبي والسياسي المحلي، إلى جانب التحركات الدولية الهادفة إلى تقليص دورها.
ورغم الانقسامات التقليدية بين القوى السياسية اللبنانية، فقد شكّلت قضية التدخّل الإيراني نقطة التقاء نادرة، حيث عبّرت غالبية القوى، بما فيها بعض الأطراف الحليفة لإيران، عن رفضها لأي وصاية خارجية. هذا الموقف الشعبي والسياسي الموحّد يعكس رغبة متزايدة في استعادة القرار الوطني وإبعاده عن لعبة المحاور.
ويمكن القول إن هذه اللحظة تمثل فرصة تاريخية للبنان لتعزيز مؤسساته الشرعية وتثبيت سيادة الدولة، خاصة إذا ما حظي بدعم إقليمي ودولي يحترم خصوصيته ويقف على مسافة واحدة من جميع الأطراف.
وإذا كان الهدف من زيارة لاريجاني الضغط على الحكومة اللبنانية أو إعادة ترسيخ النفوذ الإيراني، فإن النتائج الأولية تشير إلى العكس. فقد عززت الزيارة من حدة الخطاب السيادي، وأظهرت للرأي العام اللبناني والدولي أن هناك إرادة داخلية لمواجهة التدخّلات الخارجية، أياً كان مصدرها. بل إن هذا التحرك الإيراني قد يدفع قوى دولية إلى زيادة دعمها لمؤسسات الدولة اللبنانية، باعتبارها السبيل الوحيد لتجنيب البلاد مزيداً من التبعية والانقسام.
في الختام، إن لبنان بتاريخ نضاله من أجل الاستقلال ورفضه للوصاية، يقف اليوم أمام تحدٍّ مصيري: إما أن يتمسّك بحقه في اتخاذ قراراته بحرية كاملة، أو أن يظل ملعباً لتصفية الحسابات بين قوى إقليمية ودولية.
وزيارة لاريجاني كشفت حجم التحدّي، لكنها في الوقت ذاته أظهرت أن هناك فرصة لتوحيد الصفوف حول مشروع دولة قوية مستقلة، سلاحها بيد مؤسساتها الشرعية وحدها، وقرارها ينبع من إرادة شعبها.
وبين مطرقة النفوذ الإيراني وسندان الضغوط الدولية، يظل الخيار أمام لبنان واضحاً: سيادة كاملة أو تبعية دائمة.
