عندما انتهيت من وضع أطروحتي لكتاب بعنوان «وطن بلا سياج» عام 2009 كان لا بدّ لي ان أجد شخصية وطنية مشهوداً لها بالحكمة والاستقلالية، واخترت الرئيس المرحوم حسين الحسيني لكتابة مقدمة لذلك المشروع الوطني الكبير، الذي يدعو لحل «ثنائية السلاح» ويقترح حلاً واقعياً وشاملاً لمسألة وطنية وشائكة تتعلق بالامن الوطني وبمواجهة التهديدات الاسرائيلية. وقبِل الرئيس الحسيني هذا الطلب بالرغم من كل الاشكاليات التي اطرحها حول دور حزب الله في احتكار المقاومة والحلول مكان الدولة في ممارسة حق السيادة الوطنية، المنوط بها حصراً وفقاً للنصوص الدستورية والشرعية الدولية للدولة اللبنانية المستقلة والسيّدة.
ورد في تلك المقدّمة بأن من الاجوبة على المسائل الحقيقية المطروحة في اعتماد استراتيجيا للامن الوطني ان «لا نلغي قدرة اللبنانيين على المقاومة بل نزيد منها بتعميمها في اطار دولة واحدة ذات حكم مدني، القرار الواحد فيه للسلطة السياسية الشرعية والواجب فيه على كل لبناني بأن يشارك في الدفاع عن بلاده ضد اي عدوان محتمل؟ وكيف تحول دون تعميق الانقسام بين اللبنانيين، وبالتالي الانسياق في المخططات الاسرائيلية الرامية الى تفتيت لبنان لانه يناقض طبيعة الكيان الاسرائيلي المبني على العنصرية الدينية؟»، ويضيف الرئيس الحسيني «غير اننا لم نفعل أياً من ذلك بفعل الخوف او بفعل الطمع».
مرّت سنوات عديدة، حبلى بالاحداث الجسام، ولم يجد اللبنانيون صيغة موحدة للدفاع عن لبنان، وذلك تحت ضغط سلاح حزب الله، الذي عاد بعد حرب تموز 2006 ليدّعي نصراً إلهياً، ويمارس بالتالي سياسة الهيمنة الامنية والسياسية على جميع اللبنانيين، ولتصبح الدولة بكامل مؤسساتها اسيرة خياراته وقراراته سواءٌ في السلم او الحرب.
وجاء تفرُّد حزب الله بقرار المشاركة في الحرب الداخلية في سوريا مثالاً على عدم اعارة قيادة الحزب اية اهمية لوجود الدولة ودستورها او لارادة الشعب اللبناني بعدم المشاركة بتلك الحرب، التي واجه فيها نظام بشار الاسد شعبه بالبراميل المتفجرة وبالسلاح الكيمياوي، وبدعم من حلفائه.
تابعت قيادة حزب الله بقرارها الذاتي، وبدعمها غير المحدود من النظام الايراني، تفرّدها واحتكارها لقرار السلم والحرب اثناء وبعد الحرب في سوريا، وصولاً الى تاريخ حصول عملية «طوفان الاقصى في 7 تشرين الاول عام 2023».
جاء في اليوم التالي لعملية غلاف غزة قرار السيد حسن نصر الله امين عام حزب الله ليعلن مشاركة الحزب في حرب «اسناد غزة» وذلك بناءً لقرار ايراني واضح، لم يقتصر على حزب الله، بل شمل جميع اذرعة ايران المسلحة الاخرى، وصولاً الى العراق واليمن.
جاءت المواجهة مع اسرائيل لتكشف بأن معادلة الردع المتبادل مع اسرائيل ما كانت سوى وهم ادعاه حزب الله وروّجت له وسائل الدعاية الايرانية. لقد مُنِيَ حزب الله بهزيمة عسكرية نكراء تسببت بمقتل خمسة آلاف من مقاتليه وبجرح ما يقارب عشرة آلاف، بالاضافة الى استنفاد او تدمير ما يقارب 70 في المائة من صواريخه واسلحته، هذا بالاضافة الى تدمير مجمل بناه التحتية الاساسية، وقتل اكبر عدد من قياداته السياسية والعسكرية، وتؤشر كل هذه الخسائر مع فشل كل المعادلة الاستراتيجية بين ايران واسرائيل الى مدى عجز محور الممانعة في مواجهة قدرات اسرائيل الهجومية والدفاعية.
امام هذه الوقائع الكارثية للحرب وما تستوجبه من اموال طائلة لإعادة البناء، ومع مطلع عهد جديد كان لا بد ان تتبلور رؤية وطنية لتصحيح سوء الرؤية والوهم اللذين سيطرا على القرار اللبناني لعدة عقود، فكان خطاب القسم الذي دعا الى استعادة سيادة الدولة كاملة والى ضرورة حصر السلاح بيد الجيش والقوى الامنية. وجاءت الحكومة السلامية لتؤكد على هذه الثوابت في بيانها الوزاري. لكن لم يكن كل ذلك كافياً لتحرير ارادة اللبنانية وفتح السبيل لاعادة بناء الدولة الفاعلة، بل كان من اللازم والواجب ترجمة هذه الشعارات وتحويلها الى قرارات تنفيذية ودستورية تُتخذ في مجلس الوزراء وتضع لبنان على طريق استعادة سيادته.
لكن سرعان ما ظهر ان حزب الله ومن ورائه ايران يرفضان قرار حصرية السلاح، ويستمران في رفع شعار «دويلة الممانعة»، وقد ظهر ذلك اولاً من تصريحات المسؤولين في الحزب، وعلى مستوى مختلف القيادات، بدءاً من امينه العام الشيخ نعيم قاسم. وظهر تعميم هذا الرفض من خلال تحريكه مناصريه في مظاهرات سيارة، مع رفع شعارات وتهديدات باثارة الفوضى والتحذير من اندلاع حرب اهلية.
واظهرت مواقف المسؤولين الايرانيين بأن قيادة الحزب ما زالت خاضعة كلياً للاجندة الايرانية، الامر الذي اكدته تصريحات وزير خارجية ايران عباس عراقجي ومستشار خامنئي علي اكبر ولايتي، فيما تستعد بيروت الآن لاستقبال المسؤول لاريجاني عن الامن القومي، والذي لن تختلف الرسائل التي يحملها عمّا سمعناه من تصريحات من ايران، برفض موقف السلطات اللبنانية. وذهبت التصريحات الايرانية الى ربط اهمية الابقاء على سلاح الحزب كورقة هامة في مفاوضات النووي الايراني، والذي يؤشر الى تبعية الحزب كلياً لايران وبالتالي سقوط كل مقولة تدّعي بأن هذا السلاح هو لمواجهة اسرائيل او الدفاع عن لبنان.
لا يمكن ان نتوقع من لاريجاني ان يأتي بأي جديد سوى دعم رفض حزب الله لتسليم سلاحه، او الدعم غير المحدود الذي عبّر عنه عراقجي او ولايتي وتستدعي هذه الزيارة ان يخرج مسؤول لبناني ليعلن ان زيارة لاريجاني غير مرحب بها، وأن يذهب القرار اللبناني الى دعوة ايران لاحترام سيادة لبنان وبأن استمرارها في التمسك بسلاح الحزب لخدمة المصالح الايرانية سيؤدي الى تأزيم او قطع العلاقات بين الدولتين.
في رأينا ان حزب الله عبر العقود لم يكن مقاومة وطنية لبنانية، بل كان تنظيماً مسلحاً لصالح الاجندة الايرانية والسورية. فالمقاومة للدفاع عن لبنان تستوجب ان يشارك فيها جميع المواطنين، وفق رؤية الرئيس الحسيني.
وإني بهذه المناسبة اذكر جزءًا من حوار دار بيني وبين الرئيس الحسيني، حيث قلت له بأنني اتصوّر بأنه ستأتي ظروف مؤاتية في المستقبل ينزع فيها سلاح الحزب، لكني لا ارى حلاً عملياً لاستعادة قاعدة حزب الله للعودة والايمان بلبنان واستقلاله وسيادته، والتخلي عن ايديولوجية «الولي الفقيه» او الارتهان لفكرة التشيّع الايراني، والتي تدعو للعمل لفرض الهيمنة الايرانية على دول الاقليم، او لتصدير الثورة كما تصورها الامام الخميني.
