إنها الحرب: تنخر في الذاكرة وتترك ندوباً كضربة خنجر في الخاصرة. ويسقط كل تعريف لها في المعجم أو في أقوال الفلاسفة والمنظّرين، حين يرى أحدهم أخاه مضرّجاً بدمه، والقنّاص يتسلّى بمن يعبر الطريق أولاً، أو يتربص بامرأة تنشر غسيل أولادها على الشرفة لتتمدد الطلقة الحمراء فوق القماش الأبيض:
نصف قرن على الحرب الأهلية اللبنانية التي تختصرها عبارة واحدة: كانت مقتلة قذرة؛ ثقب الرصاص الجدران والقلوب، وانسحبت السكاكين من أغمادها: ذبح على الهوية، وأيام سود وأمهات في ثياب الحداد.
تصارعت سرديات كثيرة على «البوسطة» ومن فتح الرصاص أولاً في ذلك النهار الربيعي (13 نيسان) المشؤوم من عام 1975. لكن الأسئلة القلقة حول تلك المقتلة لا تزال تبارح مكانها: هل أزيلت المتاريس حقاً واختفت خطوط التماس؟
هل السلام الهش في الوطن المنكوب هو هدنة بين حربين؟ نقف على بُعد خمسين عاماً من ذكرى الحرب، نستطلع آراء كوكبة من الشعراء والروائيين حولها ونردد مع إليوت: «نيسان أقسى الشهور يخرج الليلك من الأرض اليباب يمزج الذكرى بالرغبة يحرّك خامل الجذور بغيث الربيع». وفي القلب أمنية واحدة: أن ينام القناص إلى الأبد ونعبر الطريق من البيت وإليه من غير سوء.
«ما علمتم وذقتم»
أنطوان أبو زيد ـــ شاعر وروائي لبناني
يقول يوسف حبشي الأشقر في تعريفه بالحرب «الأهلية»: «الحربُ تميتُ كلّ شيء، وبعدها تتكوّن السراديب، وتُخلق الأثواب، أثواب الوقاية من الزوائد. كلّ شيء عدا الحياة زوائد. الحربُ تميتُ كلّ شيء، وتكتب بالفحم على الظهور والأيدي والجباه والبطون والجدار كتابات ثخينة، وتكتب لكلّ واحدٍ من إنساننا أن يحبّ ذاته فقط في عزلة قلبه وخوفه وسرداب وحشته…» (المظلة والملك وهاجس الموت، ص:155).
ويقول الفيلسوف هوبس في الحرب الأهلية: «الحرب الأهلية هي البداية السلبية للدولة، وهي غيابُ الحدود: فمن يُقتل هو إما القريب، وإما من ذوي القربى، وإما مواطنٌ لنا… ثمّ إنّ الحرب هي البربرية بعينها، باعتبارها نقيضاً للمدينة، بل عودة بالبشر إلى طبيعتهم الأولى، في حين أنّ جذورها سياسية في الغالب: صراع أفكار، وسعي إلى السلطة، ومجرّد طموحات سياسية…».
تحلّ الذكرى الخمسون للحرب الأهلية اللبنانية الكبرى ولم يتسنّ لنا، نحن اللبنانيون، أن نتأمّل في ما صنعته الأيادي، وأحدثته في البشر والحجر وفي الوعي وقابلية النهوض والعيش معاً.
لما أعددتُ كتابي «أحياء بأحياء» وهو كناية عن خبرات عيش في أمكنة عدة كانت ساحة للاقتتال بعدما كانت ساحة للعيش بين مواطنين من طوائف مختلفة ومشارب متباينة، كنتُ قد خرجتُ بانطباع، يقاسمني فيه كثيرون مفاده أنّ ما عشناه على مدى خمسة وعشرين عاماً (1975-1990) لم يكن حرباً أهلية واحدة، خاضها فريقٌ ضدّ آخر بدعوى دفاعه عن قضية جوهرية (القضية الفلسطينية/ سيادة الدولة اللبنانية) وبتبعات مهولة تكاد لا تنتهي من مجازر، وتهجير، وتدمير أملاك، وإعادة الزمن إلى الوراء عشرات السنين لما قبل تأسيس الدولة وقيامها (عام 1920)، وإنما كانت كوكتيلاً من الحروب المتوالدة بعضها من بعضها الآخر، على قولة الشاعر الجاهلي:
وما الحربُ إلا ما علمتم وذقتمُ/ وما هو عنها بالحديث المرجّمِ/ متى ما تبعثوها ذميمةً/ فتضرَ إذا ضرّيتموها فتضرمِ/ فتعرككم عركَ الرّحى بثفالها/ وتلقحْ كشافا ثمّ تنتجْ فتتئمِ.
ومن الحقائق البائسة التي يمكن للإنسان العاقل استخلاصها، وقد نجا من نيران الحرب الأهلية الآكلة، أنّ المرء لا يبرأ تماماً، إذ يخرج من الحرب، وأنّ أذىً نفسياً وروحياً لا بدّ من أن يكون قد تمكّن منه لأمد طويل.
علينا التحديق في وجه الحرب
كي نتلافى الوقوع في شباك عشقها
(فوزي ذبيان)
هذا عدا عن إسقاطه الكثير من اليقينيات السريعة والشعارات السهلة، وعدد من الأقنعة والمفاهيم التي صوّرت له أرض المعركة مجالاً للنضال الراقي والثورة المظفّرة على عدوّ هو عديل للشيطان.
في حين أنّ ما كان يخدمه بالفعل هو الفتنة الطائفية والنعرات المذهبية التي كانت لا تزال كامنة في اللاوعي الجمعي، وتنتظر الفرصة المناسبة للعودة إلى الحياة.
على أنّ الكتاب الذي أعددته «أحياء بأحياء» (1992 ــ دار الجديد) وكان عبارة عن نصوص وصفية وسردية، كان إجابة عميقة عن مستقبل العيش في البلاد؛ ولئن أصاب الأحياء التي قضيت فيها زمناً ليس بالقصير، ما أصاب كلّ الأحياء في مدينة بيروت وضواحيها، من خراب وقتل عشوائي، وتهجير، فإنّها احتفظت بقدرة على تجديد سبل العيش الواحد والمشترك (المختلط) عصيّة على التبدد والفناء. مثالي على ذلك، ما كتبته في أحياء الدورة ــ برج حمود، والناصرة، حي بيضون والبرجاوي، وحي الغيلان حيث نشأت. والأمثلة عن جانب العيش المضيء لا تُحصى.
ومن الحقائق البائسة أيضاً أنّ الحرب الأهلية، حالما تندلع شرارتها، فإنّها تميل إلى التضخم، والتوالد حروباً لا تكاد تنتهي. ودليلنا على ذلك ما جرى من حروب بينية ضمن الطرف الواحد، فكيف بالأطراف الآخرين الذين استنسخوا حروبهم من الحرب الأم هذه. ومع ذلك، لا بدّ من أن يحلّ بديلاً من تلك الحقيقة البائسة حقيقة سياسية بنّاءة ومشرقة في أنّ الضامن الوحيد لحياة الأفراد، في إطار مجتمعي سليم هو الدولة الديموقراطية العادلة. ولا أحسب الزمن الباقي لنا سوى الفرصة الكبرى لسبر الإمكانات المتاحة لعيش حيّ ومختلط بنّاء وسليم في مدننا، وأحيائنا، ونوادينا، وجامعاتنا، ونقاباتنا، وصروحنا العلمية والثقافية، ومسرحنا.
بيت بحروب كثيرة
فوزي ذبيان ــ روائي لبناني
من غير المنطقي أن يقارب أي مواطن لبناني الحرب اللبنانية في ذكراها الخمسين بقراءة موضوعية. فهذه الحرب بمجمل تمظهراتها هي أقرب إلى الشريك الصعب المراس الذي علينا معايشته يوماً بيوم.
لا أخال أنّ ثمة مواطناً لبنانياً لم تسهم الحرب اللبنانية في رسم ملامحه وانفعالاته وانتماءاته وصولاً إلى علاقته مع ذاته ومع الآخرين. جملة هذه الحرب تلزمنا كلبنانيين بالاقتناع أن الحرب في لبنان هي صاحبة البيت، هي المقيمة الدائمة ونحن مجرد زوار عابرين. تقول آنا آخماتوفا في إحدى قصائدها: كما ينضج المستقبل في الماضي، يتعفّن الماضي في المستقبل.
وكأني بآخمانوفا في هذه العبارة تصف علاقتنا، نحن اللبنانيون، مع ديمومة حروبنا. إنها، هذه الحروب، العفونة الطازجة على الدوام التي تركن في الماضي وتتلصّص على المستقبل.
فالحرب أو الحروب اللبنانية، الأمر سواء، هي أرشيف بيّن، وهي أيضاً بيان سطور أيامنا التالية. قد لا تستوفي الكلمات شرط تشريح حروب اللبنانيين وتفرعاتها، وقد أجادت هذه الحروب كل ضروب تشريحنا.
يخال المرء أنّ كل كلمات اللبنانيين المعزولة عن حروبهم مجرد همهمات لا معنى لها. ذلك أن هذه الحروب شكّلت تاريخياً الإحساس المشترك بالعالم بين أهل هذا البلد، وبالتالي كل كلمات العالم في المعجم اللبناني المحض هي كلمات حربجية… قد تطلق هذه الكلمات بالمباشر أو باللف والدوران، قد تُطلق عن سابق تصور وتصميم أو عن طريق المصادفة إنما في كل الحالات هي جوهر لسانهم.
لست أدري ما إذا كنت مغالياً إزاء مقاربتي للحرب اللبنانية إنما المغالاة في هذا الصدد أجدها – وبلا مؤاخذة – تقع في باب الحكمة. ربما علينا، نحن اللبنانيون، التحديق في وجه الحرب بإمعان من جهة والقبض على اختلاس نظراتها علينا من جهة أخرى، فبهذا الأمر ربما نتلافى الوقوع في شباك ـــ أكاد أن أقول ـــ عشقها.
هنالك من قال إن البشر ليسوا سادة التاريخ إنما هم مرضاه. وفي الحالة اللبنانية تحديداً، لسنا على الإطلاق سادة كل ما مرّ علينا من حروب، بل ترانا مرضى هذه الحروب وويلاتها منذ عام 1975 وصولاً إلى حرب الإسناد الأخيرة.
لا أخمن أنّ ثمة من يتجرأ في لبنان على القول إنه الأدرى في فهم القوانين المخفية التي رتّبتْ كل حروبنا. ولكني على ثقة تامة أن من البلاهة في مكان أن تكون الحروب في بلد من البلدان هي على الدوام من ترسم سياسات الذاكرة.
الكلام في الحرب فضفاض إنما تعزيل بيت الحروب يستلزم بالضرورة فضفضة ذاكرة الحروب وتعزيلها ثم طيّها تمهيداً لذاكرة جديدة لا حروب فيها.
سردية داخل الرأس
حنين الصايغ- روائية
أول ما يتبادر إلى ذهني حين نتكلم عن الحرب الأهلية هو مصطلح العزلة. ولدتُ بعد انتهاء حرب الجبل بسنتين في إحدى القرى الدرزية في جبل لبنان. قرية تعزلها جبال تنتصب كحاجزٍ بينها وبين العالم.
ثم جاءت الحرب وما تبعها من تهجير للمسيحيين ليمعن في عزلنا أكثر وأكثر. وعيتُ على دنيا يشغلها الدروز وحدهم، ويتخلل أحاديثهم كلام عن الجيران الذين صاروا أعداءً قبل أن يُهجَّروا.
لم أدرك قبل سن العاشرة، وبعدما التحقتُ بمدرسةٍ رسمية في مدينة عاليه، أنّ هناك ديناً يُدعى الإسلام وأن أصدقائي وصديقاتي الذين يأتون من بلدة القماطية ينتمون إلى هذا الدين. الخوف هو المصطلح الثاني المرتبط بالحرب.
وهنا لا أتحدث عن الخوف المباشر الناتج من القصف وموت الأحبة والتشرد، بل من الخوف الذي يبقى بعد أن ينتهي كل هذا.
خوف يتسرب إلى آبار أرواحنا الجوفية ليصبح جزءاً لا يتجزأ من تكوين كل من عاش الحرب. كل الكبار في حياتي عاشوا خائفين ومتوجسين من الآخر. عاشوا في انتظار الحرب التالية، بيقين من يعلم أنها ستبدأ في أي لحظة حتى في غياب المعطيات السياسية التي قد تمنطقها. لكن الخوف والمنطق لا يجتمعان.
كبرتُ ورأيتُ أن الخوف الذي صبغ وعي كل الكبار في عالمي والصورة غير المكتملة عن الوطن وأطيافه في وعيي الطفولي، لم تكن تجربة تخصني وطائفتي فقط، بل يمكن تعميمها على كل الطوائف بلا استثناء. الحرب انتزعتنا جميعاً من سياقنا، فأصبحنا أجزاءً تبحث عن كلٍ مفقود.
نحن أبناء الجيل الجديد، الذي لم يعايش الحرب الأهلية إلا عبر حكايات الآباء والأجداد. خرجنا من العزلة، تعلمنا وسافرنا، لذلك نميل إلى الاعتقاد أننا تخطينا الحرب الأهلية والمنطق الطائفي الذي أدى إليها.
لكنّ كثيرين منا ــ مهما تعلموا أو سافروا ــ فإنهم حين يعودون إلى قراهم، ينزعون عنهم ثوب المدنية وينخرطون في الصراعات البدائية والأفكار الطائفية نفسها، كما قال الأديب الراحل سعيد تقي الدين قبل ستة عقود. كيف نلوم من عايشوا الحرب ولم يقدروا على فك حصار العزلة يوماً إذا كان من تحرروا وابتعدوا عن بؤرة الصراع، لا يزالون محكومين بذاكرة الحرب ومشغولين بمعاداة الآخر؟
الحرب تبدأ بسردية داخل الرأس، ولكنها لا تبقى هناك!
جروح غائرة
حسن م عبدالله ــ شاعر
ثمة جروح غائرة حفرتها الحرب الأهلية في أعمق أعماق الروح. لم تمسسني رصاصة أو شظية، لكن الأدوية تراكمت على الطاولة مثل سنواتنا المريضة.
أعمارنا التي طالت للمصادفة، ربما كانت قصاصنا المرّ، لأننا لم ننتبه في اللحظات الحاسمة إلى غرقنا في قمامة الحرب، ثم طوفان الندم. لم نَسأل ونَستجوِب إلا في وقت متأخر.
وحين فات الأوان على فعالية السؤال وشرعيته، استسلمنا لصور الشهداء الذين فاخر الزعيم بتراكمهم النوعي والطائفي!
يا للهول.
انزلقنا في الحرب الأهلية. من دون ادعاء فهم ملابساتها،
لم نكن مؤهلين للقتال المحترف، لكن التنظيم كان بحاجة إلى المقاتلين. من دون تفكير منطقي، وجدنا أنفسنا في محاور القتال.
في الحرب/ أرسلنا القائد باتجاه المنحدر/ سلّمَنا البنادق والقنابل/ قال هنا ستمكثون/ بين الصخور/ بعد أن مات الكثير منّا/ هطلت الأمطار حتى بلغت أعناقنا/ وما زلنا هناك/ منذ أربعين سنة/ تغمرنا المياه بين الصخور/ ينام رفيقي لأحرسه/ وأنام ليحرسني.
وضعتني سنوات الحرب الأهلية بأشخاصها وأحداثها أمام سؤال الرواية. كل التفاصيل التي عشتها كانت محفزة لكتابة رواية، وكلما شرعت في تأسيس شخصية روائية، وجدت أصابعي عالقة في حضيض من حزن وأسى: لن أتمكن من كتابة الرواية/ لأن جميع أبطالها/ ماتوا/ ومكثت أيديهم في حنجرتي.
إلى الآن لم أستطع الخروج من الحرب الأهلية، رغم أننا نستعد للدخول في أخرى على ما يقول الخبراء في نعي البلاد والسلم الأهلي. لذلك كتبت يوماً هذه الذكرى: وصلنا أعلى التلّة/ كان القمر بِكْرا/ والغيوم من حوله/ تفوح برائحة الموت/ كان الموت عالياً/ أعلى من التلّة/ وكان ظهر التلة على غير عادته/ فنظرنا في فضة الضوء/ ورأينا ظهور القتلى/ تعلوها ظهور قتلى فوقهم/ وهكذا إلى أن لامسنا جرحاً/ يحلق في السماء البعيدة.
حرب لبنان التي سمّيت أهلية أسقمتنا. وشعرت تحديداً أنها دخلت في جيناتي. خوفي أنها تنتقل عبر الدم. وقلت أنني لا بدّ لي من أن أسابقها بما أحمي بلادي منها، فكتبت: «سأروي/ لا تخافي/ هناك فصل في روايتي/ سيكشف الجحيم الذي رأيناه/ المقصات الحادة العالقة في خاصرتنا/ آثار الحريق في الجبهة التي حشرنا فيها الحزب/ خطوط الدمامل من عفن مستنقعات الماء/ الهستيريا التي تطفو كلما لاحت وجوه أصحابنا القتلى/ لا تخشي شيئاً بعد الآن/ سأروي/ حتى يتساقط من فمي الدم/ كما تعلمين/ لم أعد آبه للفضائح/ ولا لكوننا أكلنا خبزاً من فم الكلاب/ ما يهمني هو أن تعرفي كل شيء/ أن أعيد إليك ذاكرتكِ التي فقدتها حين اغتصبكِ البؤس/ حين نزعوا عنكِ ثيابكِ وأساوركِ/ وسأعترف بكل الحقد في قلبي/ سأروي كراهيتي/ ككل الذين سُلِخَتْ أحلامهم/ وكيف وضعوا على لساني الكبريت/ لأنني فقط/ قلت إنني أحبّكِ/ كما أحِبّ الحرية.
كل ما كتب عن الحرب الأهلية لن يعيد الأزهار إلى أغصانها. انقطع نفس الأشجار. وها هي الأم الأولى تمسك بزنّار ولدها تشدّه إلى حضنها لكي لا يتخطى عتبة البيت باتجاه حرب جديدة.
