Site icon IMLebanon

لبنان وسوريا: من التجاذب إلى فرصة التأسيس لعلاقات ندّية تحترم السيادة

 

 

في لحظة دقيقة من تاريخ العلاقات اللبنانية السورية، وبين ملفات أمنية ودموية لا تزال مفتوحة، برز تطوّر لافت تمثّل في تسليم المسؤول عن جريمة قتل باسكال سليمان إلى السلطات اللبنانية.

 

 

 

هذا الحدث، على الرغم من ألمه، يشكّل نقطة تحوّل يُمكن البناء عليها. فهو لا يكتفي بإعطاء إشارة إلى أن العدالة بدأت تأخذ مجراها، بل يحمل دلالة سياسية بالغة الأهمية: هناك اليوم فرصة حقيقية لفتح صفحة جديدة في العلاقات بين لبنان وسوريا، قائمة على الاحترام الكامل لسيادة كل من الدولتين، وعلى أساس من التوازن والشراكة لا يقوم على الهيمنة أو الخضوع، بل على المصالح المتبادلة والانفتاح المسؤول.

 

 

 

هذه الفرصة لم تكن لتلوح في الأفق لولا التحوّل السياسي الكبير الذي شهدته سوريا في كانون الاول 2024، حين سقط النظام البعثي الذي حكم البلاد لأكثر من نصف قرن، وتسلّمت إدارة انتقالية جديدة زمام الأمور، ساعيةً إلى إعادة بناء المؤسسات، وترميم العلاقات مع الدول المجاورة، وطيّ صفحة ثقيلة من الوصاية والقمع والصراعات.

 

 

 

لبنان، الجار الأقرب والأكثر تأثراً تاريخياً بما يجري في سوريا، يقف اليوم أمام مفترق طرق تاريخي: إما أن يعيد تكرار نمط العلاقات السابقة الذي أرهقه سياسياً وأمنياً واقتصادياً، أو أن يغتنم هذه اللحظة لبناء علاقة جديدة مع سوريا، قائمة على الندية والتعاون واحترام السيادة.

 

 

 

لفهم أهمية هذه الفرصة، لا بد من العودة إلى الجذور التاريخية للعلاقة بين البلدين، وبالتحديد إلى المرحلة المفصلية الممتدة بين عامي 1943 و1950، حين بدأ لبنان يشقّ طريقه نحو الاستقلال الاقتصادي بعد نيله الاستقلال السياسي. في تلك الحقبة، انقسمت الرؤى داخل لبنان حول طبيعة النموذج الاقتصادي الملائم لوضعه الخاص، في ظل محيط إقليمي تتصاعد فيه الانقلابات وتتشكل فيه أنظمة اشتراكية مغلقة، وعلى رأسها سوريا.

 

 

 

منذ ذلك الوقت، عارضت السلطات السورية المتعاقبة منذ الاستقلال، لا سيما النظام البعثي في عهد آل الأسد، استقلالية القرار الاقتصادي والسياسي اللبناني، واعتبرت أن اندماج لبنان في الفلك السوري هو من بديهيات الجغرافيا والتاريخ.

 

 

 

في المقابل، تبنّى لبنان في تلك المرحلة خياراً مختلفاً. أدركت نخبُه السياسية والاقتصادية أن بلداً صغيراً محدود الموارد كلبنان لا يمكنه بناء اقتصاده على الزراعة أو التصنيع فقط، وإنما دعم بشكل كبير الخدمات المصرفية والتجارية والسياحية.

 

 

 

سعى لبنان إلى أن يكون مركزاً إقليمياً يربط بين الشرق والغرب، ويستقطب رؤوس الأموال العربية والغربية، مستفيداً من موقع بيروت كميناء حيوي ومركز مالي صاعد. حيث استفاد من تزايد موجات التأميم والانغلاق الاقتصادي في الدول المجاورة، حيث بدأت الرساميل العربية ورجال الأعمال بالتدفّق إلى لبنان، إذ وجدوا ملاذاً آمناً للحرية الاقتصادية، ونظاماً قانونياً ضامناً للملكية الفردية.

 

 

 

هذا المناخ الحر دفع بالنموذج اللبناني إلى الأمام، ورسّخ بيروت كعاصمة مالية وسياحية للمنطقة حتى بداية السبعينات. المسار بدأ مع قرار لبنان في عام 1950 بفك الوحدة الجمركية مع سوريا، وهو قرار اعتُبر حينها مقامرة كبرى، سواء على الصعيد السياسي أو الاقتصادي. سياسياً، ساد القلق من أن يُستغل هذا القرار كذريعة من قبل دمشق للتدخل أو حتى ضمّ أجزاء من لبنان، في ظل وجود تيارات لبنانية، خصوصاً بين بعض الزعامات الإسلامية، كانت تؤيّد الوحدة مع سوريا.

 

 

 

أما اقتصادياً، فكانت المخاوف مضاعفة نتيجة العجز الكبير في الميزان التجاري اللبناني، واعتماد لبنان النسبي على السوق السورية.

 

 

 

لكنّ هذا القرار لم يكن مجرد إجراء اقتصادي، بل كان تعبيراً واضحاً عن رغبة في تثبيت السيادة الاقتصادية كركن من أركان السيادة الوطنية. وقد تبنّى هذا التوجه تيار سياسي وفكري واسع من القوميين اللبنانيين المؤسسين، الذين رأوا في الاقتصاد الحر جزءاً أساسياً من هوية لبنان الحديثة. رفع هؤلاء شعار “لبنان سويسرا الشرق الأوسط”، دولة محايدة، صغيرة الحجم، لكنها فاعلة إقليمياً من خلال قدرتها على تقديم الخدمات المالية والتجارية للعالم العربي، في مقابل الحد الأدنى من تدخل الدولة في السوق.

 

 

 

لكنّ التجربة أظهرت أن السيادة لا تعني القطيعة، كما أن التعاون لا يعني الذوبان. لبنان وسوريا مرتبطان بالجغرافيا والمصالح، وتاريخ التجاذب بينهما أثبت أن العلاقة السليمة لا يمكن أن تقوم إلا على قاعدة الاحترام المتبادل لا الفرض، وعلى الشراكة لا الاستتباع. ومع التبدّل السياسي الذي شهدته دمشق، ومع خطوة تسليم القاتل كمؤشر على نية جديدة في التعاطي، فإنّ الكرة باتت في ملعب الطرفين لإعادة بناء العلاقة على أسس جديدة.

 

 

 

ما كان مستحيلاً في الأمس قد يصبح ممكناً اليوم. وما كان يُدار في الظل بمنطق الوصاية، يمكن أن يتحوّل إلى تعاون مؤسساتي شفاف. العلاقات بين الدول تُبنى على المصالح، لكن هذه المصالح لا تُصان إلا في ظل سيادة واضحة ومعترف بها من الجانبين. ومن هنا، تبدو اللحظة الراهنة تاريخية بكل المقاييس: فرصة لبناء علاقة لبنانية سورية ندّية، قائمة على الاحترام والسيادة والتكامل، لا تُكرّس ماضي الوصاية، بل تُطلق مستقبلًا من الشراكة العقلانية.

 

 

 

الاستفادة من هذه الفرصة تتطلب خطوات عملية واضحة: ترسيم الحدود، ضبط المعابر، تنسيق أمني مشروع يحترم القوانين، وشراكة اقتصادية تنطلق من أولويات البلدين. هي فرصة حقيقية، لكنها قد لا تتكرّر. والمسؤولية تقع على الجميع في لبنان وسوريا لئلا تضيع كما ضاعت فرص كثيرة قبلها.