Site icon IMLebanon

من ملفات الحرب اللبنانية قصة باخرة الأكوامارينا (الجزء الثاني)

 

 

 

قصة رؤوس الماعز كي يقال إنها شحنة مواشٍ لا أسلحة تفاديا لانهيار حكومة كرامي

 

 

من مرفأ جونيه انطلق قارب سريع باتجاه قبرص وعلى متنه المسافرون إلى اليونان، ومن لارنكا ركبوا الطائرة إلى اليونان التي وصلوها خلال ساعات، وبعد اجتماع مطوّل مع القبطان لم يخل من صعوبات، اتفق خلاله على خطة سير الباخرة، ونال القبطان والبحارة إكرامية هائلة، ثم عاد المسافرون إلى قبرص ومنها إلى جونيه.

 

 

 

على ضوء الخطة التي اتفق عليها، عمد القبطان إلى تغيير لون الباخرة واسمها وجنسيتها في مدة لا تتجاوز الأسبوع، كان خلالها المتربصون شراً بالباخرة ما زالوا يرصدون الآفاق منتظرين اقترابها من الشاطئ اللبناني، وكانت برقياتهم يلتقطها جهاز التنصت في الشعبة الثانية، ولكن بعد مرور وقت على انتظارهم وصول الباخرة الموعودة من دون ظهور أي أثر لها، يبدو أن الفلسطينيين سئموا المراقبة، معتقدين أن كل القصة أكذوبة مركّبة والمقصود منها الإلهاء عن عملية أخرى في مكان آخر.

 

 

 

لم تكد تمر 24 ساعة على التقاط جهاز التنصت في الشعبة الثانية البرقية الفلسطينية بفك المراقبة، حتى تلقى النائب جبران طوق برقية من قبطان الباخرة يعلمه أنه أصبح مقابل شواطئ جبيل وهو يقترب من الساحل، لكنه سيبقى على مسافة من الشاطئ لأن حجم الباخرة يمنعه من الاقتراب.

 

 

 

على الفور تم إبلاغ أعضاء اللجنة، ومع غروب الخميس 31 تشرين الأول 1975 شاهد بعض مقاتلي “نمور الأحرار” المتواجدين على سطح الرابية مارينا في الصفرا الباخرة تقترب من الشاطئ، فتم إعلام الرئيس كميل شمعون، وسرعان ما وصل الشيخ بشير الجميل وداني شمعون وأعضاء اللجنة مع عدد من المسؤولين العسكريين.

 

 

 

فيما الليل بدأ ينشر سواده، راحت الزوارق الصغيرة تنطلق من موانئ: طبرجا، الصفرا، العقيبة، البوار والمعاملتين باتجاه الباخرة وعلى متنها عناصر من أحزاب الجبهة اللبنانية، وسرعان ما بدأ إفراغ الباخرة ونقل الصناديق إلى الزوارق التي حملتها إلى الموانئ التي انطلقت منها، وبدأ تحميلها في الشاحنات التي انطلقت إلى الأديرة والمخازن.

 

 

 

 

 

الشاحنات تغادر الموانئ نحو القرى والبلدات

 

 

 

صباح الجمعة 1 تشرين الثاني تسارعت وتيرة العمل، وتم استقدام عشرات الشبان والمقاتلين، وراحت الشاحنات المحمّلة بالأسلحة والذخائر تغادر الموانئ إلى القرى والبلدات والمراكز العسكرية.

 

 

 

يتذكر أحد المسؤولين العسكريين السابقين أن أولى الشاحنات التي انطلقت يومها كانت وجهتها دير الأحمر، تخوّفاً من أن تقطع طريق الأرز – عيناتا بسبب تراكم الثلوج، فكان إصرار من القيادات البشراوية على تأمين السلاح والذخائر لدير الأحمر في أسرع وقت.

 

 

 

تبعتها شاحنة أخرى ووجهتها جزين، وخوفاً من وقوعها في أيدي القوات الفلسطينية في محيط مدينة صيدا، سلكت الشاحنة طريق ترشيش – زحلة – صغبين، ومن البقاع الغربي دخلت إلى جزين. وكانت معظم الشاحنات، لا سيما المتوجهة إلى القرى الواقعة في الأطراف، تنطلق بحماية غير منظورة من قبل دوريات لشباب أحزاب “الجبهة اللبنانية” كانت تستكشف وتؤمّن لها الطريق.

 

 

 

لدى المسؤولين العسكريين الذين كانوا يومها متواجدين عند مرفأ الأكوامارينا والموانئ المجاورة كمّ هائل من الأخبار والروايات حول ظروف تحميل الشاحنات وتوجيهها إلى القرى والأديرة.

 

 

 

يتذكر مسؤول عسكري سابق أنه لم تكن هناك مشكلة في توجيه الشاحنات إلى الأديرة الواقعة في الأقضية المسيحية، لكن المشكلة كانت عند إرسال الشاحنات إلى الأطراف، خاصة في ظل الخطر الشديد من أن تقع في أيدي المنظمات الفلسطينية، وقد غامر العديد من السائقين بقيادة شاحناتهم وعبورهم المناطق التي يسيطر عليها الفلسطينيون خاصة طرابلس ومخيمات الشمال، واتبع السائقون يومها بمعاونة أدلاء محليين طرقاً جانبية يعرفونها جيداً تمرّ بمعظمها في قرى مسيحية.

 

 

 

 

 

أوسع عملية تفريغ

 

مرت خمسة أيام وعملية التفريغ لا تتوقف ليلاً ونهاراً، وكان يتم تبديل الشبان والمقاتلين من دون أن يتوقف العمل لحظة واحدة، لكن مع الوقت ظهر أن عملية التفريغ بواسطة الزوارق و”اللانشات” الصغيرة عملية بطيئة جداً وفي غاية الصعوبة، فطوال خمسة أيام من العمل المضني لم يكن تم تفريغ ربع الحمولة، إضافة إلى أن العمل كان محفوفاً بالمخاطر ليس أقله حال البحر الهائج، الذي قد يوقع الصناديق من ظهر المراكب الصغيرة.

 

 

 

صباح 4 تشرين الثاني، تقرر أن يتم إحضار باخرة أصغر تستطيع الدخول بسهولة إلى خليج مرفأ الأكوامارينا، بحيث يتم نقل الصناديق من الباخرة الرئيسية إليها ومن ثم تنقلها إلى الشاطئ، وتكفّل الشيخ بشير الجميل بتأمين الباخرة، وغروب ذلك النهار كانت الباخرة المطلوبة تقف بمحاذاة باخرة الأسلحة والرافعات تنقل الصناديق إليها، ومع تباشير صباح 5 تشرين الثاني كانت الباخرة الصغيرة تتقدم إلى داخل مرفأ الأكوامارينا، وخوفاً من أي مضاعفات، تقرر تسريع العمل قدر المستطاع، فتم إحضار مئات المقاتلين، كما أُحضر جميع الشباب الذين كانوا يتدربون في مخيم ريفون التابع للواء الجبل (بقيادة هنري صفير)، إضافة إلى عشرات الشبان الذين نزلوا من بشري، ووصل النائبان طوني فرنجية والأب سمعان الدويهي مع مجموعات من الشبان الزغرتاويين، وبدأ الجميع أوسع عملية تفريغ، وكانوا يسابقون الوقت والرافعات لا تتوقف ثانية عن العمل، فيما الشاحنات المحمّلة تنطلق بحماية المقاتلين ووجهتها الأديرة ومخازن الأسلحة خاصة في الجبال.

 

 

 

ليلاً تم افراغ الباخرة وعادت لتقف قرب باخرة الأسلحة لتنقل ما تبقى من صناديق أسلحة وذخائر واستمرت عملية نقل الصناديق حتى ساعات الفجر الأولى، عندما عادت الباخرة الصغيرة إلى داخل مرفأ الأكوامارينا لتبدأ عملية إفراغ الصناديق في الشاحنات.

 

 

 

لم تكد تمرّ ساعات قليلة من صباح 6 تشرين الثاني، حتى قام رئيس الحكومة رشيد كرامي بفضح قصة الباخرة وقامت القيامة.

 

 

 

هنا دبّ الخوف في صفوف المسؤولين عن عملية التفريغ لأنهم كانوا ما زالوا بحاجة أقله لثلاثة أيام عمل متواصلة ليلاً ونهاراً لاتمام عملية التفريغ، لكن الرئيس  شمعون والشيخ بيار الجميل أرسلا أوامر واضحة باستمرار عمليات التفريغ مهما كانت النتائج.

 

 

أوامر كرامي لم تُنفّذ

 

في بيروت، وصف رئيس الحكومة الوضع بـ “الخطير جداً”، معتبراً أن قضية الباخرة الراسية قبالة شاطئ جونية “خطيرة جداً”، وأنه تبلغ منذ مساء البارحة بقصة الباخرة وقضى الليل ساهراً يحاول معالجة الوضع وقد أصدر أوامره بصفته وزيراً للدفاع لسلاح البحرية اللبنانية لاحتجاز الباخرة، لكن صباحاً اكتشف أن أوامره لم تنفذ، فلم تتحرك أي قطعة بحرية حربية من قاعدة جونيه البحرية والعمل ما يزال قائماً في مرفأ المعاملتين، وأضاف أنه متوجه إلى قصر بعبدا للاجتماع بالرئيس فرنجية.

 

 

 

الساعة التاسعة صباحاً، وصل الرئيس كرامي إلى قصر بعبدا، والتقى الرئيس فرنجية بحضور الوزير فيليب تقلا لأكثر من ساعة ونصف، خرج ليدلي بتصريح لم تبثه الإذاعة اللبنانية ولا تلفزيون لبنان، أبرز فيه بعض جوانب ما أسماه أزمة الباخرة، التي ما تزال تفرغ السلاح على مرأى ومسمع من الجيش الذي يعجز عن القيام بما يفرضه الواجب، متهماً الأميرال فارس لحود قائد سلاح البحرية في الجيش اللبناني بتغطية ما يجري في خليج جونيه القريب من مقر قيادته، وأشار إلى موقف قد يتخذه. وفسّر البعض هذا الموقف بأنه اتجاه نحو الاستقالة وغادر إلى السراي الحكومي.

 

 

لاقى موقف رئيس الحكومة، الرئيس صائب سلام الذي أدلى بتصريح هاجم فيه تفريغ الأسلحة في جونيه، رافضاً القول إن هذا السلاح لحماية المسيحيين، وطالب بموقف واضح من الحكومة. فيما اتخذ الزعيم كمال جنبلاط موقفاً متشنجاً رافضاً عصيان أوامر رئيس الحكومة الذي هو في الوقت نفسه وزيراً للدفاع من قبل قائد الجيش العماد حنا سعيد، الذي اتهمه بأنه يتلقى الأوامر من الرئيس  شمعون “خلافاً للأصول”، كما اتهم رئيس الجمهورية وفريقاً من الضباط المسيحيين “بالتواطؤ” مع الميليشيات المسيحية لتسهيل تمرير الأسلحة إليها.

 

 

 

أما الرئيس كرامي، وفور وصوله إلى القصر الحكومي، أجرى اتصالات عدّة شملت مفتي الجمهورية الشيخ حسن خالد والإمام موسى الصدر والرئيس  سلام والرئيس عبد الله اليافي وكمال جنبلاط، واتفق معهم على عقد قمة إسلامية في مقر المفتي في عرمون.

 

 

في القصر الجمهوري في بعبدا، وفور مغادرة الرئيس كرامي غاضباً، وصل رئيس الشعبة الثانية في الجيش اللبناني العقيد جول البستاني يرافقه الأميرال فارس لحود وبعض الضباط والتقوا الرئيس فرنجية شارحين الوضع.

 

 

يخبر الأميرال فارس لحود أنّ “أول سؤال سأله الرئيس فرنجية كان حول كمية السلاح الذي تم تفريغها حتى الساعة والوقت المتبقي لانهاء عمليات التفريغ، فردّ عليه أن العمل ما يزال قائماً وحتى الساعة تم إنزال نحو ثلثي الكمية وما زال العمال بحاجة أقله لثلاثة أيام عمل متواصلة لإنهاء التفريغ”.

 

 

ثم عرض رئيس الشعبة الثانية للوضع السياسي المستجد بعد تصاريح كرامي وسلام وجنبلاط مقترحاً مصادرة الباخرة من قبل الجيش اللبناني، ومن ثم تعمد الشعبة الثانية لتسليم ميليشيات الجبهة اللبنانية الأسلحة المصادرة بعد انحسار التشنج السياسي.

 

استمع الرئيس فرنجية لطرح العقيد جول البستاني من دون أن يعلّق، ثم طلب من الضباط الاجتماع بالرئيس  شمعون في مكتبه المجاور، وبحسب العقيد البستاني فإن رئيس الجمهورية أعطى موافقته على الاقتراح، فيما يشير الأميرال لحود إلى أن رئيس الجمهورية لم يوافق تماماً وأوحى أنه لا يمانع هذا الحلّ إن كان يجنّب البلاد مشكلة جديدة.

 

 

بعد خروجه من المكتب الرئاسي، قصد العقيد جول البستاني ومن معه وزير الداخلية كميل شمعون الذي كان اتخذ مكتباً له في القصر الجمهوري، بالقرب من مكتب الرئيس بسبب تعذّر انتقاله إلى وزارته، وعرض عليه الاقتراح بحضور الشيخ بطرس الخوري وجورج أبو عضل.

 

 

لوهلة، أبدى رئيس الجمهورية السابق تجاوباً بعدما أصغى إلى الحجج التي ساقها رئيس الاستخبارات اللبنانية، ولا سيما منها ضرورة عدم إحراج رئيس الحكومة ودفعه إلى الاستقالة بعدما لوّح بها. وأكد العقيد بستاني للرئيس شمعون أن الشعبة الثانية ستعيد شحنة الأسلحة المصادرة إلى أصحابها ما دامت هي من تزودهم بالأسلحة في بعض الأحيان من مخازنها.

 

 

 

خرج العقيد البستاني من مكتب الرئيس شمعون معتقداً أنه نال موافقته، وتوجه إلى وزارة الدفاع وأطلع قائد الجيش على الاتفاق، ثم أصدر العماد حنا سعيد أوامره للقاعدة البحرية في جونيه باحتجاز الباخرة.

 

 

 

على الفور تحركت من قاعدة جونيه البحرية خافرتان ووجهتهما الباخرة المقصودة، وقبل أن تصلا إلى قرب السفينة تلقى قائد الدورية أوامر جديدة من الأميرال فارس لحود بالتوقف بعيداً وانتظار أوامر جديدة.

 

 

ماذا الذي حصل لتتغيّر الأوامر؟

 

تبين أن الرئيس شمعون لم يعط موافقة واضحة على اقتراح العقيد جول البستاني، فبعد مغادرة رئيس الشعبة الثانية القصر الجمهوري والتأكد من أن سلاح البحرية في الجيش اللبناني قد يعمد إلى مصادرة الباخرة، استنفرت مجموعات مسلحة من حزبي “الكتائب” و”الأحرار” إضافة إلى “لواء الجبل”، وتمركزت قبالة شاطئ المعاملتين، وتم تركيز أسلحة متوسطة وثقلية لضرب الخافرتين البحريتين إذا اقتربتا من باخرة السلاح، كما سجّل ظهور مسلح كثيف لشباب من كسروان قبالة القاعدة البحرية في جونيه مهددين باقتحامها، فيما راحت تسود مدينة جونية والساحل الكسرواني حال من الغليان الشديد وظهور مسلح خاصة مع وصول مجموعات مسلحة من زغرتا وبشري والبترون والمتن، وحتى داخل القاعدة البحرية كانت هناك حالة تململ لدى الضباط والرتباء والجنود المسيحيين.

 

 

 

في هذه الأجواء أرسل الأميرال فارس لحود برقية إلى قيادة الجيش يشرح فيها الوضع في القاعدة البحرية في جونيه ومحيطها، مقترحاً وقف العملية خوفاً من حمام دم، كما تلقت قيادة الجيش  تقارير تبلغ عن حال الاستنفار على الشاطئ قبالة الباخرة، فأصدرت التعليمات للأميرال لحود بتوقيف العملية، وتوقفت الخافرتان قبالة الباخرة المقصودة.

 

 

 

فيما الاستنفار العسكري عند شاطئ كسروان عند أعلى درجاته، وأعمال التفريغ تسير بسرعة، انعقدت عند الرابعة عصراً القمة الإسلامية في عرمون وضمت المفتي الشيخ حسن خالد والإمام موسى الصدر ونائب رئيس المجلس الإسلامي الشيعي الأعلى الشيخ محمد مهدي شمس الدين، رشيد كرامي، صائب سلام، عبد الله اليافي، كمال جنبلاط وحسين الحسيني، وشارك في جانب من الاجتماع الزعيم الفلسطيني ياسر عرفات يرافقه صلاح خلف “أبو أياد”.

 

 

اقتصرت مداولات القمة على قضية باخرة الأكوامارينا والإجراء الواجب اتخاذه من قبل رئيس الحكومة.

 

 

خلال الاجتماع اتصل المفتي خالد بالبطريرك خريش وروى له تفاصيل قصة الباخرة كما رواها الرئيس رشيد كرامي، وأخبر البطريرك الماروني أن الوضع الناشئ عن قضية الباخرة “خطير جداً”، وأن هذا السلاح سيهدّد “الوحدة الوطنية ويعطّل رغبة اللبنانيين في التعايش ويفتح باب الأزمة على مصراعيه”، وطلب منه إجراء الاتصالات والضغوط اللازمة للمساهمة في حل التعقيدات الجديدة.

 

 

 

بعد فترة قصيرة، وبينما اجتماع عرمون ما يزال قائماً، اتصل البطريرك خريش بالمفتي خالد وأبلغه أنه يولي موضوع الباخرة اهتمامه وهو يقوم بمساعٍ لحل الأمر سريعاً، راغباً من المجتمعين ضبط الأعصاب وتهدئة الخواطر لمعالجة الأمور بالحسنى.

 

 

 

بعد ساعات من المداولات قرّر المجتمعون في عرمون عدم تقديم استقالة الحكومة والمطالبة بإجراءات وتدابير عاجلة بحيث يأخذ القانون مجراه، وتقرر إبقاء اجتماعاتهم مفتوحة.

 

 

 

قرابة الساعة الثامنة ليلاً، خرج كمال جنبلاط من الاجتماع وأدلى بتصريح هاجم فيه قائد الجيش، متهماً بعض ضباط الجيش بالتنسيق مع “الرهبان وميليشيا الكتائب” والأحرار لإبقاء الفتنة في لبنان واستمرار المجازر لمدة طويلة”، ولم يوفر في هجومه قائد سلاح البحرية وقائد ثكنة صربا اللذين رفضا مع ضباطهما تنفيذ أوامر وزير الدفاع، مطالباً بإحالة جميع الضباط المشاركين في قضية الباخرة إلى المحكمة العسكرية و”طردهم ليكونوا عبرة لغيرهم”. وطالب بالعمل على رفع الجيش إلى المستوى الوطني وإنقاذه من مهاوي الطائفية التي انزلها إليها قائد الجيش السابق العماد اسكندر غانم.

 

 

 

وأعلن الرئيس عبد الله اليافي دعمه للرئيس كرامي معتبراً حادثة الباخرة “خطيرة جداً”. وأعلن الإمام الصدر أنه في ظل الأجواء المريحة التي بدأت تسود البلاد فوجئ بـ “فضيحة رسو الباخرة المليئة بالسلاح وتقاعس المسؤولين عن واجبهم تجاهها على الرغم من أوامر رئيس الوزراء”، واعتبر أن خبر وصول الباخرة كـ “خبر وصول ورقة نعي لألف مواطن آخر من جديد”. وأضاف أن الاجتماعات ستبقى مفتوحة وستتوسع لتشمل جميع الشخصيات الوطنية.

 

 

 

أما حزب الكتائب، فأصدر ليلاً بياناً بثته إذاعة “صوت لبنان” التابعة له، التي عادت للبث قبل يوم واحد، بعد أن أوقفها الحزب قبل أشهر بناء على طلب السلطة الرسمية، مساهمة في التهدئة العامة ولإتاحة فرصة النجاح أمام مساعي التسوية عبر الحوار الوطني.

 

 

 

لم ينف البيان الكتائبي المختصر قضية الباخرة، وشدّد على وجوب جعل حظر التسلح يشمل كل المرافئ والمناطق والحدود، مؤكداً تأييد كل تدبير يتخذه رئيس الحكومة لفرض سلطة الدولة على كامل الأراضي اللبنانية.

 

 

 

كما أذاعت “صوت لبنان” بياناً موقعاً باسم شباب كسروان جاء فيه أنهم (شباب كسروان) “يعلنون وقوفهم إلى جانب قضية الباخرة من دون تردد وأن كرامتهم لا تدعهم يتركون فريقاً وطنياً عرضة للإساءة والتعسف والتمييز والتعصب من جراء عملية باخرة على متنها أمتعة مختلفة والشواطئ اللبنانية تشهد رسو العديد من البواخر المثقلة بالأسلحة والذخائر وهي تفرغ في وضح النهار وأمام أعين رجال الدولة”.

 

 

 

وتحدّى البيان السلطة ورئيس الحكومة تحديداً “أن يتمكن من مصادرة قطعة سلاح واحدة من بواخر الغرباء والأحزاب اليسارية”، ورفض البيان “أن نكون نحن اللبنانيين هنا لنطلب براءة ذمة من أحد، وأن يكون المسيحيون ضحية مؤامرة علنية”.

 

 

 

عند شاطئ المعاملتين، غادرت ليلاً مرفأ الأكوامارينا الباخرة الصغيرة باتجاه باخرة السلاح الراسية قبالة الشاطئ وقبالتها خافرتا سلاح البحرية اللبناني، لتنقل كمية من الأسلحة والذخائر، فيما استمر الاستنفار العسكري للمقاتلين عند الشاطئ وقبالة قاعدة جونية البحرية.

 

 

 

في مقابل الاستنفار السياسي الذي أعلنه رشيد كرامي وحلفاؤه، كان هناك استنفار سياسي آخر قام به قادة أحزاب “الجبهة اللبنانية”، حيث كان رجالهم يفرغون السلاح.

 

 

ما قصة الماعز التي اقترحها أحد الكهنة؟

 

قرابة منتصف تلك الليلة، عقد اجتماع موسع في جونيه حضره النائب أمين الجميل والشيخ بشير الجميل وطوني فرنجية وداني شمعون وهنري صفير وسليم كرم ورئيس الرابطة المارونية شاكر أبو سليمان وعدد من الرهبان من بينهم الأب مرتينوس سابا والأب حنا وهبة وبعض مسؤولي “الكتائب” و”الأحرار” وأعضاء من لجنة شراء الأسلحة، وعدد من النواب منهم جبران طوق والأب سمعان الدويهي وحبيب كيروز وطارق حبشي وجورج سعاده وإدمون رزق والياس الهراوي، والنواب السابقون: قبلان عيسى الخوري وجوزف مغبغب وعبدو صعب، ووصل مندوبون عن الوزير جوزف سكاف.

 

 

خصص الاجتماع لدرس الخطوات التالية بعد الفضيحة التي أثارها الرئيس كرامي، وكان تأكيد من الجميع على استمرار إفراغ الحمولة مهما كانت النتائج، وإصرار من النواب على ضرورة توزيع السلاح في أسرع وقت ممكن على مناطقهم المهددة بالسقوط.

 

 

 

خلال الاجتماع وصل العقيد أنطوان بركات موفداً من الرئيس سليمان فرنجية، وأبلغ المجتمعين أنه لا يمكن استمرار منع الجيش من الاقتراب من الباخرة وتفتيشها، ويجب إيجاد حل لهذه المشكلة، فاقترح بعض المشاركين أن يصعد إلى الباخرة بعض الضباط الأمينين ويكتبوا تقريراً ينفون فيه وجود الأسلحة.

 

 

 

رد أحد الضباط وكان وصل مع العقيد بركات أن معلومات الشعبة الثانية تؤكد أن الرئيس كرامي الذي هو أيضاً وزير الدفاع قد يصرّ على تفتيش الباخرة من قبل ضباط يرسلهم بنفسه.

 

 

 

هنا وصل الجميع إلى ما يشبه الحلقة المفرغة، إلى أن أتى الحل من الأب مرتينوس سابا الذي اقترح أن يصعدوا إلى الباخرة بعض رؤوس الماعز ويقولوا إنها باخرة تحمل شحنة مواشٍ، وتكفّل بجلب الماعز خلال ساعات.

 

 

 

لم يكن أمام المجتمعين حلّ آخر، فتقرر أن يبلغ العقيد بركات رئيس الحكومة بأنه سيتم تفتيش الباخرة صباح اليوم التالي.

 

 

 

بعد انتهاء الاجتماع مع خيوط الفجر الأولى التقى الشيخ بشير الجميل وداني شمعون وفداً وصل من قرى الشريط الحدودي (مرجعيون والقليعة ورميش ودبل وعين أبل) أتوا لاستلام حصتهم من السلاح، وضعت خلاله اللمسات الأخيرة على خط سير الشاحنة إلى الجنوب حيث تقرر أن تسلك طريق ترشيش – زحلة – البقاع الغربي وعدم عبور الطريق الساحلي.

 

مع ساعات الصباح الأولى كانت تقف عند ميناء طبرجا شاحنة بيك أب وعلى متنها راعٍ هبط من جرود كسروان ومعه نحو عشرة رؤوس من الماعز،

 

يتذكر أحد المقاتلين وكان وقتها يقف عند رصيف الميناء أن المشهد كان مضحكاً جداً، فقد رفض الراعي الهابط من أعالي كسروان ركوب البحر مع قطيعه، وأعلن أنه سينتظر عودة الماعز عند رصيف الميناء، ورغم محاولة البعض إقناعه رفض التزحزح عن موقفه، ولم يكن أمام الشباب سوى نقل رؤوس الماعز إلى زورق صغير وإيصالها إلى الباخرة.

 

 

 

كان مشهداً مضحكاً جداً: رؤوس الماعز متشبثة بالأرض ترفض الانتقال إلى الزورق وهي تطلق ثغاءها، وعدد من الشباب يحاولون جرها وحتى حملها ونقلها إلى الزورق، وبعد جهد جهيد انطلق الزورق بحمولته إلى الباخرة، وهناك كانت معاناة أخرى خلال إصعاد الماعز بالرافعة إلى الباخرة، لكن في النهاية وصلت الماعز إلى الباخرة وبدأ انتظار وصول ضباط الجيش اللبناني.

 

 

 

لم تتأخر بعثة الجيش اللبناني بالوصول، فبعد أن وصلته برقية بتكليفه تفتيش الباخرة، وبعد التأكد أن كل شيء أصبح جاهزاً، انطلق الأميرال فارس لحود من قاعدة جونيه البحرية للإشراف على عملية التفتيش.

 

 

 

صعد الأميرال لحود إلى الباخرة وشاهد الماعز واستفسر عن الوقت المتبقي لانهاء تفريغ الصناديق، ثم عاد إلى القاعدة وأرسل برقية يؤكد فيها أن الباخرة تحمل شحنة مواشٍ.

 

 

 

كما تم إرسال ثلاثة جنود من قاعدة جونيه البحرية إلى المحكمة العسكرية، وأدلوا بإفاداتهم أمام المدعين العسكريين أسعد جرمانوس ووفيق الحسامي، أكدوا فيها أنهم صعدوا إلى الباخرة وشاهدوا صناديق خشبية تحوي معلبات وكميات من الأخشاب ورؤوساً من الماعز.

 

 

 

لم يقصد أي من هؤلاء الجنود يومها الباخرة، بل تم اختيارهم لأنهم موضع ثقة، وكانوا قبل توجههم إلى المحكمة العسكرية التقوا محامياً كتائبياً معروفاً لقّنهم ما يجب أن يقولوه.

 

يتبع