قبل ظهر الخميس 6 تشرين الثاني 1975 أدلى رئيس الحكومة رشيد كرامي بتصريح أعلن فيه أنه تبلّغ أن باخرة ترسو قبالة مجمّع الأكوامارينا في المعاملتين، الذي يملكه الشيخ بطرس الخوري تحمل شحنة أسلحة إلى الأحزاب المسيحية، وأنه أوعز إلى قائد الجيش لإصدار أمر بوضع اليد عليها ومصادرة حمولتها.
ما إن بدأت وسائل الإعلام نشر تصريح رئيس الحكومة حتى قامت القيامة من القيادات الإسلامية واليسارية تطالب بحجز الباخرة وتقديم المسؤولين عنها إلى المحاكمة.
فما هي قصة تلك الباخرة؟
على أثر الضغوط العربية التي تعرض لها رئيس الجمهورية سليمان فرنجية لوقف القتال ضد الفلسطينيين الذي اندلع في 2 أيار 1973 والتي حالت دون تمكن الجيش اللبناني من السيطرة على المخيمات الفلسطينية، استسلم رئيس البلاد لقدر جديد، هو ضرورة إيجاد جيش آخر غير الجيش اللبناني قادر على حماية الشرعية والأهالي الآمنين.
أواخر أيار من ذلك العام استدعى رئيس الجمهورية إلى قصر بعبدا الرئيس كميل شمعون والشيخ بيار الجميل وعقدوا اجتماعاً مطولاً استعرضوا خلاله التقارير التي وصلتهم عن حجم الفوضى التي تعم البلاد من جراء تجاوزات الفدائيين الفلسطينيين الذين أحكموا سيطرتهم العسكرية شبه الكاملة على معظم قرى وبلدات الجنوب والبقاع، إضافة إلى أحياء واسعة من بيروت لا سيما معظم مداخل العاصمة. وعن وضع القرى والبلدات المسيحية في أطراف الوطن والأخطار التي قد تتعرض لها من قبل المسلحين الفلسطينيين.
في نهاية الاجتماع خلص المجتمعون إلى النتيجة التالية: لا حل سياسياً متاحاً مع المقاومة الفلسطينية، ولا أمل في الاتكال على سوريا للجم المنظمات الفلسطينية بعدما اتخذت دمشق موقع الانحياز لصالح الفلسطينيين، وكذلك هي الحال مع الدول العربية، ولا يمكن الاتكال على الجيش اللبناني بعد اليوم، فالوضع أصبح سيئاً جداً ولا مفرّ من التسلح وتدريب الشباب المسيحي للدفاع عن أرضهم.
بعد أيام عقد اجتماع آخر شارك فيه الرئيس فرنجية وزعيما حزبي الكتائب والأحرار، واستدعي اليه قائد الجيش العماد إسكندر غانم ومدعي عام التمييز القاضي ميشال طعمة ومدير عام الأمن العام العقيد انطوان الدحداح ورئيس الشعبة الثانية في الجيش اللبناني العقيد جول البستاني ورئيس قسم الأمن القومي في الشعبة الثانية الرائد نبيه الهبر.
في بداية الاجتماع أبلغ رئيس الجمهورية المشاركين بقرار التسلح والتدريب الذي اتخذه مع الزعيمين المسيحيين، طالباً مناقشة السبل الأسلم لإنجاح هذا القرار.
في خلاصة النقاش الذي استمر ساعات تقرر أن تقوم الشعبة الثانية في الجيش اللبناني بتسليم مسؤولي الكتائب والأحرار الأسلحة التي يحتاجون إليها، إضافة إلى إرسال بعض الضباط المسيحيين إلى معسكرات التدريب التي كان بدأ الحزبان وبعض الجماعات المسيحية الأخرى إقامتها في جرود المناطق المسيحية، لمساعدة الضباط والرتباء المتقاعدين الذين كانوا باشروا التدريب فيها.
بعد انتهاء الاجتماع تسرّعت وتيرة التدريب والتسلّح، وشهد صيف العام 1973 انشاء أكثر من 15 مخيماً للتدريب، من بينها 10 مخيمات للقوى النظامية الكتائبية، و3 مخيمات لنمور حزب «الوطنيين الأحرار»، ومخيم للتنظيم اللبناني الذي أشرف عليه مباشرة بعض ضباط الشعبة الثانية، ومخيم لجيش التحرير الزغرتاوي الذي كان يقوده النائب طوني سليمان فرنجية.
هذا النشاط التدريبي الذي شارك فيه المئات من الشبان المسيحيين، لم يبق طي الكتمان، فبدأت بعض الصحف تتحدث عنه، فقامت ضجة حمل لواءها الزعيم الاشتراكي كمال جنبلاط وبعض القوى اليسارية والاسلامية متهمين حزبي «الكتائب» و«الاحرار» بمحاولة تخريب البلد، فما كان من الشيخ بيار الجميل إلا أن اعترف في 10 أيلول 1973 بوجود مخيمات لتدريب الشباب للدفاع عن أرضهم وعرضهم، معلناً استعداد حزب «الكتائب» لإلغاء جميع مخيمات التدريب خلال مهلة 24 ساعة ومنع أي كتائبي من الظهور بلباس عسكري شرط ألا يبقى في لبنان 14 مخيماً معسكراً فلسطينياً خارجَين عن سلطة الدولة وقوانين البلاد، فإذا استطاعت الدولة اللبنانية أن تستعيد سلطتها على المخيمات الفلسطينية التي أصبحت معسكرات وأن يعود الفلسطيني خاضعاً للقانون اللبناني مثله مثل أي مواطن لبناني، «فوقتها سنلغي مخيمات التدريب، وليس من الجائز أن يطبق على اللبناني ما لا يطبق على الفلسطيني».
رافق النشاط التدريبي المكثف، نشاط تسليحي اقتصر صيف 1973 على بنادق خفيفة وبعض الأسلحة المتوسطة القديمة بمعظمها، ولم تكن تلك الأسلحة تفي الغرض من التدريب، خاصة في ظل الكمّ الهائل من الأسلحة الخفيفة والمتوسطة والثقيلة التي تمتلكها المنظمات الفلسطينية، فتكثفت الاتصالات لمحاولة الحصول على السلاح المطلوب.
مطلع عام 1974، ومن خلال مفاوضات كان أجراها رئيس الشعبة الثانية في الجيش اللبناني العقيد جول البستاني مع الملحق العسكري في السفارة الأميركية في بيروت الكولونيل فورست هانت، وصلت أولى شحنات الأسلحة إلى مطار بيروت بطريقة سرية على متن 5 طائرات نقل من طراز «130C وشملت 10 آلاف قطعة سلاح خفيف من طراز كرابين وستين وسلافيا، إضافة إلى عشرات المدافع والهواوين من العيارات الصغيرة.
فور وصول تلك الشحنات تسلمها بعض ضباط الشعبة الثانية الأمينين ونقلوها بطريقة سرية إلى بعض الأديرة في جبل لبنان التي كانت الرهبنة المارونية وضعتها في تصرف الأحزاب المسيحية، كان أبرزها دير مار روكز مراح المير الواقع على طريق بكفيا – القليعات ودير مار موسى الدوار ودير مار أنطونيوس الجديدة، وأديرة أخرى في كسروان وجبيل والبترون خاصة دير غوسطا ودير سيدة طاميش ودير حوب.
من تلك الأديرة بوشر توزيع السلاح على الأحزاب المسيحية فاستلم حزب «الكتائب» الكمية الأكبر، كما تسلم نمور الأحرار كمية مهمة، ووزعت كميات أخرى على التنظيم وجيش التحرير الزغرتاوي وبعض القيادات المحلية، وأرسلت كميات أخرى إلى بعض القرى المسيحية التي كانت مهدّدة من قبل المنظمات الفلسطينية مثل زحلة ودير الأحمر والقبيات والقاع وراس بعلبك وجزين والدامور والجية ورميش والقليعة، ولم يقتصر التوزيع على القوى المسيحية بل شمل بعض القيادات الإسلامية المتعاونة مع الشرعية كالأمير مجيد أرسلان والنائب الدرزي بشير الأعور في المتن الأعلى، والنائب الشيعي السابق محسن سليم المقيم في الضاحية الجنوبية لبيروت والنائب سليمان العلي في عكار والنائب كاظم الخليل في صور، وبعض الزعماء السنة المحليين في بيروت الغربية المناهضين للمنظمات الفلسطينية، وبعض أنصار الرئيس كميل شمعون من الطائفة الإسلامية السنية كآل سكرية في الفاكهة في البقاع الشمالي، وآل الضاني في طرابلس، وآل الحجار في إقليم الخروب.
في آذار من ذلك العام، وعن طريق تاجر أسلحة لبناني يدعى سركيس سوغونوليان، كانت لديه علاقات مع المخابرات المركزية الأميركية سافر إلى بلغاريا 4 مسؤولين عسكريين يمثلون حزبا «الكتائب» و«الأحرار» بهدف المفاوضة على شحنة أسلحة جديدة، وبعد مفاوضات مع شركات السلاح البلغارية تقرر شراء 7 آلاف رشاش كلاشينكوف وسلافيا، وقاذفات أر بي جي ومدافع هاون من عيار 82 ميلليمتراً مع ذخائرها والعتاد الملحق بها.
بعد انتهاء المفاوضات، فتح ثريّان مسيحيان هما الشيخ بطرس الخوري وناصيف جبور الاعتماد المالي لصالح سركيس سوغونوليان، الذي تكفّل بإيصال الشحنة إلى بيروت.
من ثم باشر سوغونوليان إجراءات الشحن، ومن خلال مساعدة الكولونيل الأميركي فورست هانت تمكنت الباخرة التي تحمل السلاح من عبور مضيق الدردنيل التركي، وفي شهر حزيران رست في مرفأ بيروت، وأفرغت بطريقة سرية وبحماية بعض رجال الشعبة الثانية بعض حمولتها، وبسبب تعذر استمرار رسوها في مرفأ بيروت طويلاً وإثارة الشكوك من حولها، انطلقت بعد أن خف حملها إلى مرفأ جونيه الأضمن، وأفرغت ما تبقى فيها.
وكما تم تفريغ السلاح من الباخرة بطريقة سرية، تكفّلت شاحنات مموهة بنقله ليلاً إلى أديرة الرهبنة المارونية، وكان على بعض المقاتلين المسيحيين حمل أعداد من صناديق الأسلحة والذخائر على ظهورهم وتوضيبها في الأقبية والمستودعات.
بعد وصول الشحنة باشر حزبا «الكتائب» و«الأحرار» بيع البنادق إلى المقاتلين، وبلغ سعر رشاش الكلاشينكوف مع ألف طلقة 675 ليرة لبنانية، وبندقية سلافيا مع ألف طلقة 650 ليرة، سدد الحزبيون الثمن تقسيطاً.
إضافة إلى سباق التسلح الذي حفل به العام 1974 شهد صيف ذلك العام سجالاً عنيفاً كان محوره الرئيس كميل شمعون والشيخ بيار الجميل من جهة والزعيم الاشتراكي كمال جنبلاط من جهة أخرى، وتمحور حول الاتهامات المتبادلة بالتسلّح وإقامة مخيمات التدريب.
لم يقتصر هذا السجال على القادة السياسيين، بل شمل أيضاً الصحف اللبنانية، التي شهدت هجومات واتهامات متبادلة، كان أبرزها الهجوم الذي شنته صحيفة السفير اليسارية في 9 آب 1974 على حزبي «الكتائب» و«الأحرار» والرهبنة المارونية متهمة إياهم بتسليح الشبان المسيحيين وتدريبهم لخراب البلد.
في اليوم التالي ردّت صحيفة العمل الكتائبية في افتتاحيتها «من حصاد الأيام» على كل الكلام الذي يقال حول التسلح، ودافعت عن وجود السلاح بأيدي الكتائب والأحرار الذي هو ظاهرة جديدة مردها إلى الخوف من تهديدات كثيرة، وبنوع خاص، من عجز الدولة وغيابها.
أما الشيخ بيار الجميل فرد على ما نشر في بعض الصحف حول وصول كميات من الأسلحة لحزبي «الكتائب» و«الأحرار»، مؤكداً على مبدأ أن يكون السلاح في يد الشرعية وحدها، وأضاف أنه يقول «برافو» للذي يدخل سلاحاً إلى لبنان بعد أن تكاثر السلاح الآتي من الخارج في يد طرف واحد فيما هاجم الرئيس شمعون بعنف اليسار اللبناني وزعيمه كمال جنبلاط متهماً إياه بتحويل بلدته المختارة إلى مستودع كبير للسلاح.
من خلال الصفقتين الكبيرتين اللتين وصلتا عام 1974، خاضت الأحزاب والقوى التابعة للجبهة اللبنانية الأشهر الأولى للحرب اللبنانية التي اندلعت في نيسان من العام 1975.
مطلع حزيران 1975 بدأت الذخائر تنضب، وأصبحت هناك حاجة لأسلحة جديدة خاصة المتوسطة والثقيلة، وعن طريق بعض تجار الأسلحة بدأت تعقد الصفقات للحصول على السلاح من الدول الشرقية كالمجر وبلغاريا وتشيكوسلوفاكيا لرخص ثمنه ووفرته بلا رقيب، ولم تتأخر الرهبنة المارونية والعديد من الأثرياء المسيحيين، الذين سارعوا لتمويل تلك الصفقات.
كما عمد بعض التجار والسماسرة لشراء كميات من الأسلحة من المخيمات الفلسطينية بأسعار باهظة قاموا بتسليمها إلى أحزاب الجبهة اللبنانية. وبدأت عبر مرفأي بيروت وجونيه، ومرفأ الأكوامارينا الواقع إلى الشمال من جونيه، تصل شحنات الأسلحة، وكانت البواخر الكبيرة لا تستطيع الاقتراب من الشاطئ، فكانت تفرغ صناديق الأسلحة والذخائر في مراكب صغيرة تلاقي البواخر ليلاً في عرض البحر وتنقلها إلى الشاطئ.
صيف 1975 توسعت المعارك، وبدأت القرى والبلدات المسيحية الواقعة في الأطراف تتعرض جدياً للاعتداءات الفلسطينية، وكان السلاح المتوافر في تلك القرى بمعظمه سلاح خفيف مع بعض الاستثناءات من الأسلحة المتوسطة، لكن الفلسطينيين بدأوا استعمال الأسلحة الثقيلة والمدفعية فراحت الدفة تميل إليهم بقوة.
في هذه الأجواء الضاغطة زار قصر بعبدا عدة نواب وزعماء مسيحيين، خاصة أبناء مناطق الأطراف ناقلين إلى رئيس الجمهورية والرئيس كميل شمعون والشيخ بيار الجميل المخاطر التي تتهدد القرى المسيحية، ومن بين الذين قصدوا قصر بعبدا النواب: حبيب كيروز وجبران طوق وطارق حبشي والنائب السابق قبلان عيسى الخوري الذين نقلوا إلى الرئيس فرنجية مخاوفهم مما قد تتعرض له منطقة دير الأحمر، واستحالة صمود المدافعين عنها في ظل هذا الخلل الفاضح في نوعية السلاح، خاصة وأن طريق عيناتا – الأرز ستنقطع بعد أشهر قليلة بسبب تراكم الثلوج.
موقف الرئيس فرنجية لخصه أحد المشاركين في تلك الاجتماعات بأن قال لهم أن مستقبل لبنان كوطن ودولة يبدو قاتماً، وهناك مؤامرة تحاك ضده والشركاء فيها كثيرون، وهناك مخططات لإذلال المسيحيين وتركيعهم، ولبنان كسلطة ودولة أصبح عاجزاً عن مواجهة ما يعد له من مخططات بأدوات خارجية وداخلية، ولا مجال بعد اليوم للاتكال على الجيش فلا سبيل لنا سوى الاعتماد على أنفسنا وإغناء ترساناتنا بكل سلاح متوفر وكل عتاد ضروري.
على أثر تلك الاجتماعات، وبسبب الوضع العسكري الضاغط تشكّلت لجنة أخذت على عاتقها تأمين السلاح خاصة المتوسط والثقيل منه مهما كان ثمنه، وضمت النائب جبران طوق، وطانيوس سابا رئيس إقليم عاليه الكتائبي ممثلاً حزب الكتائب والشيخ بطرس الخوري ممثلاً الرئيس سليمان فرنجية والسيدان جورج أبو عضل وجو عريضة عن حزب «الوطنيين الأحرار» وصاحب بنك الاعتماد الشعبي الشيخ جو كيروز شقيق النائب حبيب كيروز، والراهب اللبناني الأب مرتينوس سابا إضافة إلى عدة متمولين مسيحيين تكفّلوا بمساعدة أعضاء اللجنة على تغطية ثمن السلاح، ودعمت الرهبنة المارونية هذه اللجنة بقوة.
باشر أعضاء اللجنة اتصالاتهم لتأمين السلاح، لكن واجهتم عدة عقبات أبرزها خمس:
1 – ضغط الوقت، بحيث أن جميع الجبهات أصبحت بحاجة ماسة إلى السلاح وفي أسرع وقت ممكن.
2 – عدم إمكانية عقد صفقات مهمة مع تجار السلاح الذين كانوا يزودون أحزاب الجبهة اللبنانية بالسلاح الخفيف، بسبب تعذر تأمينهم لسلاح متوسط وثقيل.
3 – ثمن الأسلحة موضوع الحاجة الملحة مرتفع جداً.
4 – شراء السلاح من الخارج لصالح جماعة وليس دول أمر صعب جداً.
5 – امكانية إيصال شحنات الأسلحة الثقيلة إلى الشواطئ اللبنانية محفوف بالمخاطر، خاصة وأن البحر الأبيض المتوسط أصبح مجمّعاً لأساطيل قوى متعادية، ومسرحاً للقرصنة البحرية.
لم ييأس أعضاء اللجنة، فسافر بعضهم إلى أوروبا في محاولة للحصول على أي سلاح متوفر، وبعد مفاوضات شاقة مع عدة مسؤولين حكوميين أوروبيين ورغم شرح أعضاء اللجنة للمخاطر التي يتعرض لها لبنان، واستعدادهم لدفع ثمن السلاح مهما بلغ لم يصلوا إلى نتيجة. فاقترح النائب جبران طوق أن يتوجهوا إلى بعض الدول الأفريقية، حيث المفاوضات مع حكوماتها قد تكون أسهل.
بالفعل غادر النائب جبران طوق إلى دولة غانا التي له فيها علاقات قديمة مع بعض قيادييها بسبب الوجود القديم لعائلته في تلك الدولة.
بعد وصوله إلى غانا باشر اتصالاته مع قيادات تلك البلاد الأفريقية، خاصة القيادات العسكرية الذين تفهموا المطالب وأبدوا استعدادهم للمساعدة.
لم تمض أيام قليلة حتى أرسل النائب طوق برقية لرفاقه من أعضاء اللجنة الذين بقوا في أوروبا يعلمهم فيها أنه استطاع الحصول على الموافقة لتأمين السلاح ولم يبق سوى التفاوض على ثمنه وتأمين باخرة لشحنه إلى لبنان، وسرعان ما وصلت البرقية إلى بيروت، ورد قادة الجبهة اللبنانية بوجوب الإسراع قدر المستطاع لأن وضع الجبهات ما عاد يحتمل.
خلال أيام قليلة تم شراء كميات من الأسلحة المتوسطة والثقيلة مع كميات كبيرة من الذخائر فاقت بكثير ما كان يأمل أعضاء اللجنة بشرائه، ورغم دفعهم أموالاً طائلة ثمن الصفقة وما رافقها من إكراميات فقد غمر قادة أحزاب الجبهة اللبنانية وأعضاء اللجنة شعور عارم بالفرح.
بعد تأمين السلاح أصبحت المشكلة تأمين الباخرة التي ستنقله إلى الشواطئ اللبنانية، وهنا بدأ بحث آخر فقد رفضت جميع شركات الشحن البحري شحن السلاح، إلى أن وافق صاحب إحدى بواخر الشحن على نقل الشحنة لقاء مبلغ كبير جداً، وبدأ تحميل الشحنة.
رغم السرية المطلقة التي رافقت شراء السلاح وتوضيبه وتحميله، يبدو أن مخابرات إحدى دول أوروبا الشرقية ويعتقد أنها رومانيا عرفت بأمر الشحنة، وأوصلت الخبر إلى منظمة التحرير الفلسطينية التي استطاع بعض مسؤوليها الاتصال بصاحب الباخرة مهددينه بالقتل ونسف باخرته بمن فيها.
خاف صاحب الباخرة وعدّل عن رأيه ناقضاً الاتفاق السابق وباشر تفريغ الباخرة مدعياً أن ثمنها بالملايين، وأن على متنها 30 بحاراً حياتهم مهددة بالخطر، ما دفع النائب طوق الذي كان لا يزال في غانا يتابع تحميل الباخرة للتدخل مجدداً عارضاً على صاحب الباخرة والقبطان إكراميات كبيرة ومغرية، متعهداً بدفع ثمن الباخرة إذا تعرضت لأي سوء.
فيما المفاوضات بين النائب طوق المدعوم من ضباط غانيين كبار من جهة وصاحب وقبطان الباخرة من جهة أخرى قائمة، راحت البرقيات التي مصدرها لبنان تصله من أوروبا تستعجل إتمام الصفقة ووصول الأسلحة إلى لبنان، وكانت كل الأخبار الواردة سيئة جداً، فقد اجتاح الفلسطينيون بلدة بيت ملات في عكار، وارتكبوا مذبحة دير عشاش قرب طرابلس، وزغرتا تعرضت لهجوم كبير استطاع المدافعون عنها صده، والبلدات المسيحية في عكار تتعرض لاعتداءات متكررة من المقاتلين الفلسطينيين، والخطر يقترب أكثر فأكثر من بلدات دير الأحمر والقبيات وزحلة والدامور والجيه وجزين والقاع والقليعة ورميش، كما أن وضع الجبهات في العاصمة ليس بأفضل حال.
هذه الأخبار السيئة والإلحاح الشديد من بيروت باستعجال وصول الأسلحة، رفعت وتيرة المفاوضات وبعد أخذ ورد طويلين ومفاوضات مضنية وافق صاحب الباخرة على الإبحار إلى بيروت لقاء مبلغ اعتبر وقتها خيالياً.
في سرعة قياسية تم تحميل الباخرة وانطلقت باتجاه مضيق جبل طارق للدخول إلى البحر الأبيض المتوسط، فيما ركب النائب جبران طوق الطائرة إلى فرنسا، ومنها عاد مع من كان في أوروبا من أعضاء اللجنة إلى بيروت منتظرين اتصالاً من قبطان الباخرة يعلمهم باقترابه من السواحل اللبنانية.
مرّ نحو أسبوع ولم يتصل القبطان، فدبّ القلق في أعضاء اللجنة، ثم وصل خبر إلى البيت المركزي الكتائبي مصدره الشعبة الثانية في الجيش اللبناني يفيد أن جهاز التنصت في الجيش تمكّن من التقاط برقيات بين بعض المنظمات الفلسطينية تتحدث عن باخرة سلاح قادمة إلى الشواطئ اللبنانية وتطلب إغراقها، كما وصلت معلومات أخرى مصدرها السفارة الفرنسية في بيروت تفيد أن البحرية الاسرائيلية تراقب الشواطئ اللبنانية مراقبة دقيقة وهناك تخوف من مصادرة الباخرة كي لا تقع في أيدي المنظمات الفلسطينية.
هنا دبّ الرعب في قيادات الجبهة اللبنانية وأعضاء اللجنة، خاصة وأن أموالاً طائلة أنفقت على شراء السلاح وتأمين نقله إلى الشواطئ اللبنانية، ومجرد فقدان هذه الباخرة نهاية الصمود في لبنان، وكانت ساعات صعبة وعصيبة مفتوحة أمام كل الاحتمالات الكارثية: لقد كانت تلك الباخرة أشبه بحمامة في نادي صيد الحمام والصيادون يقظون، أما صاحبها فمغلول اليدين معصوب العينين. أصبحت الساعات والدقائق تمر بطيئة جداً، ولا اتصال من قبطان الباخرة، إلى أن تلقى النائب جبران طوق فجأة اتصالاً من القبطان يبلغه فيه أنه خاف من متابعة الطريق إلى بيروت فحوّل وجهة إبحاره إلى اليونان بانتظار أن يتمكن من الاتصال ببيروت، ورسا بالباخرة في أحد المرافئ اليونانية تحت ستار الحاجة إلى المؤونة والوقود وبعض أعمال الصيانة.
ردّ النائب طوق على القبطان طالباً منه البقاء مكانه بانتظار أن يصل أحد إليه، وعلى الفور تم إطلاع الرئيس فرنجية والرئيس شمعون والشيخ بيار الجميل والآباتي شربل قسيس على الاتصال، وتقرر أن يسافر النائب طوق والسيد جورج أبو عضل والراهب اللبناني الأب مرتينوس سابا إلى اليونان يرافقهم بعض المسؤولين العسكريين للاجتماع بالقبطان ودرس الخطوات التالية. وقبل الانطلاق تم وضع خطة تقضي بتغيير ألوان الباخرة وعلمها وخط سيرها للوصول إلى شاطئ جونيه.
