سؤال اقتحم كل العقول على امتداد العالمين العربي والغربي بعدما أسقطت الانتخابات النيابية الغالبية المسيطرة رغم التفاوت الكبير في موازين القوى وسيطرة اطراف على مقدرات السلطة.
ليس سراً ان لبنان يعيش اسوأ ايامه الاقتصادية والاجتماعية وقد اقترب من الوصول الى جهنم بحسب أدبيات قادته. وأن اللبنانيين انشغلوا بتأمين ربطة خبز وصفيحة بنزين ووقود لمولدات الكهرباء والبحث عن دواء رخيص وغيرها من متطلبات العيش ولو بالحد الأدنى.
وليس سراً ان الظروف الاقليمية أدت إلى وجود سيطرة ونفوذ قويين لطرف لبناني يتقاسم السلاح والقرار مع الدولة ويفرض سياساته داخلياً وخارجياً.
وليس سراً أن لبنان يعيش ازدواجية مميتة: فساد داخلي من قبل طبقة سياسية طائفية لم ترحم ولم تشبع، ومقاطعة عربية ودولية زادت من جراحه وفاقمت ازمته.
وليس سراً أن جزءا كبيرا من اللبنانيين والعرب اعتبروا الانتخابات لزوم ما لا يلزم لأن اهل السلطة سيعودون بقوة أكبر كونهم يملكون السلاح والتجييش الطائفي.
وليس سراً أن قانون الانتخابات في لبنان فصل في الدورة الماضية على قياس فريق معين ليحصل على الغالبية وفيه مثالب وعيوب كثيرة، وليس سراً أن الكثيرين توقعوا عمليات تزوير او اضطرابات تؤدي الى تغيير بعض النتائج.
وليس سراً أن اطرافاً معروفة مارست ما يشبه التهديد اللفظي والميداني لتخويف البعض من عصيان «أوامر التصويت».
رغم كل ما سبق ذكره، بيّنت انتخابات لبنان للعالم أنه ما زال نموذجاً ديموقراطياً، واظهرت أن هذا الشعب كما قاوم الاحتلال الاسرائيلي واعتداءاته المتكررة يعيش ايضاً شعلة المقاومة ضد الفساد والطائفية والتجويع، وهو شعب مقاتل من أجل التغيير لا يستسلم ولو أوصله قادته الى قاع جهنم.
كان أجمل ما في المشهد الانتخابي اللبناني وصول كوكبة مهمة من الشبان والشابات الى البرلمان من صفوف المجتمع المدني، اي اصحاب الرؤى الوطنية الشبابية الاكاديمية العابرة للطوائف. هؤلاء الذين نزلوا الشوارع بشكل سلمي فضُربوا واضطهدوا ولوحقوا فقط لأنهم طالبوا بمستقبل أفضل لهم ولابنائهم.
وكم كانت تلك المشاهد رائعة لمسنين تجاوزوا التسعين من اعمارهم وهم يصرحون انهم صوتوا لأشخاص في الثلاثينات ايماناً منهم بالتغيير.
أما كلمة الحق فيجب أن تقال. لقد لعب رئيس الحكومة نجيب ميقاتي والفريق الوزاري الذي اختاره هو دوراً كبيراً في تأمين هذا الاستحقاق الوطني اللبناني بكل حيادية ونزاهة. واثبت أنه رجل دولة في الأزمات تحديداً، يصبر ويتعالى ويتحمل ويدور الزوايا من أجل عودة لبنان إلى دوره وعودة العرب إليه… وأثبت ميقاتي بالفعل أنه ما زال في هذا البلد الصغير قامات يمكن أن تحظى بثقة الداخل والخارج مهما كانت التحديات صعبة وكبيرة.
ولنكن واقعيين، هذه الانتخابات ليست العصا السحرية لحل مشاكل لبنان وهذا بحث آخر، انما هي اختراق لبقعة السواد التي ظن كثيرون انها لن تتبدد وضوء في آخر النفق يثبت ان الاعتماد على ارادة التغيير هو المقاومة الحقيقية لشعب ذاق الأمرّين: ظلم الجغرافيا وحروبها واطماع الاقليم، وفساد طبقة سياسية تستقوي بالخارج لبسط سلطة مطلقة في الداخل.
اليوم يقول اللبنانيون ان لا سلطة مطلقة لأحد في الداخل. هناك نفوذ، سيطرة، سلاح، سياسات توريطية، لكنهم لا يستكينون ولا يستسلمون. هذا بلد وجد ليبقى وسيبقى بالتوافق والشراكة والديموقراطية التي تنتصر رغم كل القوانين المعيقة لتقدمها، ولن يستكمل هذا الانتصار الا بممارسة سياسية صادقة وبرامج تنموية نزيهة وشفافة لأن الديموقراطية بلا نزاهة تغرق في بحر الفساد.
لبنان هو لبنان، حالة فريدة في هذا العالم العربي، البلد الأكثر ديموقراطية والأكثر تعددية والأكثر ثقافة وانفتاحا، رغم كل ما مر عليه من اجتياحات عدوة، وسيطرات «شقيقة»، وحروب وتقاتل وميليشيات ودويلات وسلاح وانهيارات اقتصادية واجتماعية. هو لبنان الذي يستحق الدعم لأننا نريده نموذجاً لتعميم ثقافة الحياة لا ثقافة الموت.
ليس سهلاً على بلد كان اسمه قبل عقود سويسرا الشرق أن يقف مواطنوه ساعات في طوابير الخبز بحثاً عن رغيف. لكن هؤلاء الأشراف وقفوا أيضاً في طوابير الناخبين بحثاً عن أمل… أضاؤوا شمعته.
ما جرى في الاستحقاق الانتخابي النيابي اللبناني يجب ان يقابل بدعم واحتضان من قبل الجميع، اللهم الا اذا كان هناك من لا يريد لهذه التجربة الديموقراطية ان تتعمم… وهذا أمر آخر.
