Site icon IMLebanon

إتفاقية الوضوح الغامض

 

السلاح المتفلّت في لبنان أحد عجائب السياسة اللبنانية، يغلب على الدولة، متسلّلا متخفّيا، فتغضّ النظر عنه، بناء للأخذ والردّ، بينه وبين قواها الشرعية. ثم يقوى عليها ويشتدّ حتى يعييها أمره، فتبادر لإنتزاعه فيعجزها، لأنه غالبا ما يكون مرتبطا بالجوار الإقليمي، أو بالجهات الإقليمية. ثم لا تلبث أن تحتال على نفسها، لإيجاد مخرج يجيزه ويبرّره ويحدّده، ويجعل له ساحة محددة.

وسرعان ما كان السلاح المتفلّت ينتشر حيثما يستطيع أن ينتشر، فيقع الخصام عليه، وتصير الدولة المحطمة، هي الخصم والحكم.

تسارع الحكومة فورا بكل سلطاتها، إلى عقد إتفاق بينه وبينها، وتجد له إجازة: أنه ضروري، لأنه يقاوم الطغيان أو المشاريع الإستعمارية أو الاعتداءات الإسرائيلية.

السلاح في لبنان منذ تأسيس الكيان، كان دائما؛ تحت واحد من هذه العناوين الثلاثة. وكان بتوجيه من بعض الجهات الخارجية، ولم يكن يقع صدفة، ولا جاء مصادفة، بل كان مرتبطا ومموّلا من تلك الجهات التي جعلته «حصان طروادة» لها.

شهد لبنان «حمل السلاح» في ساحاته، منذ زمن الإنتداب، فكانت الخضات الأمنية، وكانت الدماء تسيل في الشوارع، تغرق المدن والقرى على حد سواء. وكانت الحكومات والرئاسات فيه، هي التي تضرم النيران، وهي أيضا التي تسارع إلى إطفائها، بحسب موازين القوى الداخلية والخارجية. وكان التآصر بين الداخل والخارج قائما على قدم وساق، منذ ذلك التاريخ، ولا يزال.

كل الأمور السياسية الملتبسة بين القوى، سرعان ما كان يجنّد لها، وكان «حملة السلاح»، لا يرمون سلاحهم، إلّا بعهد بينهم وبين أهل السلطة، وغالبا ما يكون العهد واضحا وغامضا في آن.

لن نخوض في الثورات التي حصلت على الدولة والرئاسة وعلى الإمرة في القبيلة والطائفة والعشيرة، في زمن الإنتداب، ولا في الأزمنة التي تلتها، منذ عصر الإستقلال، وأزمنة وأزمات الرؤساء: بشارة الخوري وكميل شمعون وفؤاد شهاب. فقد كانت المكائد السياسية والعسكرية قائمة «على حيلها»، وكان كل ذلك يجري تحت أعين الناس، وقد كُتبت فيه المجلدات الضخام، لأنه كان مرتبطا بالأجندات الخارجية.

وفي عصر المقاومة الفلسطينية، والتي حكمت لبنان طيلة عشر سنوات، كما قال الرئيس ياسر عرفات بعظمة لسانه، سارعت الدولة لملاقاته في «إتفاق القاهرة». وجعلت له مخرجا في العرقوب، الذي بات يعرف، منذ ذلك التاريخ، بـ«فتح لاند». أجازت الدولة عام ذاك، حمل السلاح في لبنان لغير اللبنانيين، لأول مرة، فيما عرف بـ«إتفاق القاهرة». ولم تعد عنه، إلّا بعد الإجتياح الإسرائيلي، فأسقطته تحت قبة البرلمان اللبناني، ووجدت نفسها عاجزة أمامه، فلم تستطع سحبه أو نزعه أو إنتزاعه من المخيمات، لأسباب وأسباب.

وبُعيد الحرب التي ذرت قرنها في لبنان طيلة ثلاثين عاما وأكثر ولا تزال، سارعت الأمم، لإنجاز إتفاق الطائف: طالب بنزع السلاح من الميليشيات وتسليمه للجيش اللبناني. وأبقى على سلاح المقاومة وحزب الله. ومنذ ذلك التاريخ، كان هذا السلاح محميا من السلطات اللبنانية. تجنّدت الدولة لحمايته بكل أجهزتها. وكان كل من يطالب بنزعه من وزراء ونواب وقيادات لبنانية، يعاقب بالإقصاء، ويحمل عليه، ويخوّن، ويحكم عليه بالعمالة.

ما جرى بعد «حرب الإسناد»، وتوقيع «إتفاق وقف النار»، بين لبنان وإسرائيل، إستثنى المقاومة وحزب الله، أن يكونا في الصورة، وأن يشهدا التوقيع على «ورقة الإتفاق» ببنودها الواضحة. وإلتزمت المقاومة، وكذلك حزب الله، بالشروط، ووعدت بها نافذة منذ ذلك التاريخ حتى اليوم، بلا توقيع منها ولا توقيعات على وقوعاتها في لبنان. فان جرى الوضوح بصورة غامضة، فالدولة اللبنانية هي التي وقّعت على الورقة، وهي ممثلة في اللجنة الخماسية التي ترأسها الولايات المتحدة، وهي ملزمة للمقاومة وحزب الله، بلا توقيع منهما. وكان المخرج لذلك: أنهما ممثلان في المجلس النيابي وفي الحكومة، وأنهما شريكا دولة ورفيقا دفاع، مثل لبنان والشجر.

وعندما حان تنفيذ خطاب القسم، كان التنصّل من التنفيذ. فالتصويت للرئيس أمر، والإلتزام بـ«حصرية السلاح» أمر آخر. وكذلك، فإن المشاركة في الحكومة أمر، وأما السلاح فخارج الشراكة، على قاعدة من المعادلة التالية: الحكومة لنا ولكم، وأما السلاح فلنا وحدنا.

وأما أهل الدولة، فهم أدرى، لأن لا توقيع للمقاومة على بنود إتفاق وقف النار أصلا.

إذن: فكل شيء واضح، وكل شيء خفي وغامض. وأصعب ما يقع للبنان اليوم، أنه يجتاز «برزخ الوضوح الغامض»، مع الدولة، ومع إسرائيل ومع الأميركيين. أما أهل المملكة والفرنسيين، فهم ينتظرون جلاء المواقف. ولا أظن أن من رعى إتفاقية الوضوح الغامض، إلّا أنه كان يقصدها…

فكل شيء مؤجّل، إلى ما بعد المفاوضات الإيرانية – الأميركية.

وعلى سبيل التذكّر – إن إتسعت الذاكرة -:

ألم يكن لغز القصف الأميركي للمفاعل النووي الإيراني، على قاعدة «إتفاقية الوضوح الغامض»؟!

إذا، ننتظر لنرى.

 

* أستاذ في الجامعة اللبنانية