في بيانٍ سياسيّ حادّ اللهجة، خرج المفتي الجعفري الممتاز الشيخ أحمد قبلان محذّراً من «17 أيار جديد»، واضعاً الحكومة اللبنانية – بمن فيها ومن عليها – في مواجهة مع التاريخ والجغرافيا، ملوّحاً بانفجار محتمل إذا ما استمرّ ما وصفه بـ«مقامرة جماعة النعيم السلطوي» بسيادة البلاد وسلاح «المقاومة». كلام المفتي لم يكن عادياً، بل يحمل في طيّاته إشارات خطيرة عن مآل المرحلة المقبلة، في ظل ما تشهده الساحة اللبنانية من تجاذب داخلي وضغوط إقليمية ودولية لإعادة النظر في التوازنات الأمنية والسياسية، وعلى رأسها ملف سلاح «حزب الله».
في نهاية بيانه، قال المفتي قبلان: «حذار من 17 أيار جديد لأن البلد بارود، وإطفاؤه بالبنزين يضع لبنان كله بقلب النار».
عبارة مشحونة بالتاريخ، بالرمز، وبالخطر. وهي، كما تبدو، ليست مجرد تشبيه بل تحذير موصوف من تكرار سيناريو قديم بصيغة حديثة. فـ«اتفاق 17 أيار» عام 1983 بين الحكومة اللبنانية وإسرائيل – الذي وُقّع بعد الاجتياح الإسرائيلي لبيروت – ظلّ في الذاكرة السياسية اللبنانية مرادفاً للخضوع والتفريط، حتى أُسقط بفعل المقاومة الشعبية والضغط السوري. واليوم، يحذّر المفتي من مشروع سياسي وأمني جديد قد يُفهم على أنه إعادة إنتاج لذلك الاتفاق، وإن بطريقة غير مباشرة.
ما الذي يستدعي «اتفاق 17 أيار» اليوم؟
السياق السياسي الذي جاء فيه هذا التصريح لا يقلّ أهمية عن مضمونه. فلبنان يشهد في الأسابيع الأخيرة تصاعداً في الخطاب السياسي المتعلق بسلاح «حزب الله»، خصوصاً بعدما كلف مجلس الوزراء الجيش بوضع خطة لحصر السلاح بحدود نهاية العام الحالي.
بالنسبة للمفتي قبلان، فإن هذه التطورات ليست إلّا تمهيداً لـ«طبخة سياسية مشبوهة»، هدفها نزع سلاح «حزب الله» أو تحجيم دوره، وبالتالي قلب موازين القوى الداخلية بشكل يخدم «إسرائيل» وحلفائها الإقليميين.
في البيان، يؤكد قبلان على المعادلة التي كثيراً ما كرّسها «حزب الله» وحلفاؤه: «الجيش، الشعب، المقاومة». ويضع هذه المعادلة في مواجهة مباشرة مع ما يسمّيه بـ«المغامرة السياسية القذرة» التي تقوم بها بعض القوى، متهماً إياها بمحاولة إدخال لبنان في حالة من «الفتنة الوطنية الكبرى»، عبر العبث بالتوازنات التي تحكم الدولة اللبنانية منذ عام 2006 على الأقل.
ويبدو جليّاً أن قبلان لا يميّز بين الدولة والمقاومة، بل يعتبر أن كل محاولة لفصل سلاح الحزب عن الدولة، أو وضعه موضع مساءلة سياسية، تعني طعن السيادة وخدمة إسرائيل. ومن هنا يأتي استحضاره لاتفاق 17 أيار، ليس كتاريخ فقط، بل كفزاعة سياسية، تنذر بأن المسّ بالمقاومة قد يُفجّر البلد.
ما الذي يعنيه «17 أيار جديد» فعلياً؟
في التحليل السياسي، يُقصد بـ«17 أيار جديد» كل محاولة لإبرام تسوية داخلية أو خارجية تُفضي إلى:
– إعادة تعريف دور «حزب الله» في المعادلة اللبنانية.
– وضع استراتيجية دفاعية تُخضع سلاحه لقرار الدولة.
– رسم خارطة تموضع جديدة للبنان ضمن المحاور الإقليمية، بما يعني خروجه من «محور الممانعة».
– تصفية البعد العقائدي للمقاومة تحت عنوان السيادة أو الإصلاح.
وبهذا المعنى، يتّهم المفتي قبلان خصوم «حزب الله» – وإن لم يسمِّهم – بمحاولة فرض واقع سياسي جديد، على طريقة ما حدث في عام 1983، حين حاولت الإدارة الأميركية فرض اتفاق على الدولة اللبنانية في عزّ الاحتلال الإسرائيلي، قبل أن يُسقط بفعل المقاومة والرفض الشعبي.
بيان المفتي لا يكتفي بالتحذير، بل يذهب إلى الحدود القصوى في الاتهام والتخوين، إذ يقول: «من تلطّخ تاريخه بالعمالة لإسرائيل وقتال الجيش اللبناني، هو آخر من يحق له الحديث عن السيادة وحصر السلاح».
هنا تصبح المعركة، في نظره، ليست بين رؤيتين للدولة، بل بين خيانة ووطنية. وهذا الخطاب التصعيدي، وإن اعتاد عليه جمهور «حزب الله»، إلّا أنه هذه المرة يصدر من موقع رسمي ديني – المفتي الجعفري الممتاز – بما يحمله من رمزية مذهبية ومؤسسية.
كما يستعمل قبلان عبارات بالغة الحدّة، مثل «جماعة النعيم السلطوي»، في إشارة إلى النخبة السياسية الجديدة أو العائدة إلى الحكم، والتي يتهمها بالتبعية للخارج وبالمقامرة بالوحدة الوطنية. في المقابل، يعيد تمجيد المقاومة باعتبارها «من استردّ لبنان»، ويعتبر أن السلم الأهلي يمرّ بحماية «القوة الوطنية السيادية»، أي سلاح الحزب.
ما يكشفه تصريح قبلان، هو أن نقاش سلاح حزب الله لم يعد مسألة تقنية أو داخلية فقط، بل بات يُنظر إليه من قِبل بيئة الحزب كـ«مشروع عدوان سياسي كامل»، يشبه في خطورته الاجتياح أو الاحتلال.
وهو بذلك يرفع السقف عالياً بوجه الحكومة، التي تجد نفسها اليوم في وضع لا تُحسد عليه، فالمجتمع الدولي يضغط من أجل استراتيجية دفاعية شاملة، والمعارضة الداخلية تطالب بحصر قرار الحرب والسلم بالدولة.
لكن أي مقاربة غير محسوبة قد تُفجّر الوضع، خاصة إذا ما قوبلت بخطاب من نوع: «حذار من 17 أيار جديد».
يُحذّر قبلان من اتفاق 17 أيار جديد، لكن اللافت أن التحذير لا يأتي فقط من التاريخ، بل من الحاضر الذي تتقلّب فيه السيادة بين التوازن والاضطراب. وبين معادلة «الجيش والشعب والمقاومة» التي يرفعها محور الممانعة، وبين مطلب «السيادة الكاملة» الذي ترفعه قوى أخرى، يبدو لبنان عالقاً بين خيارين متناقضين، لا يملك القدرة على ترجيح أحدهما من دون أن يدفع الثمن.
وعليه، فإن التحذير من «اتفاق 17 أيار جديد» ليس فقط رفضاً لتسوية، بل تلويح مبكر بانفجار، إذا ما تجاوزت الدولة أو شركاؤها في الداخل والخارج، الخطوط الحمراء التي ترسمها «المقاومة» في ميزان القوة والسيادة.
