Site icon IMLebanon

أزمة الدواء في أوجّها والمطلوب “ترشيد على الترشيد”

 

رفوف الصيدليات تفرغ من العقاقير الطبية… والإستيراد متوقّف إلى حين البتّ بخطة الدعم المُقرّة من سنة

 

وضع المسؤولون في فمهم منذ تموز العام 2020 “علكة” ترشيد الدعم لإطالة أمده من جهة، وتخفيف الضغط عما تبقى من أموال المودعين من جهة أخرى. وبعد سنة لم نر إلا “بالونات” تكبر، و”تتفقّع” أزمات في وجه المواطنين، وأخطرها اليوم أزمة الدواء.

 

لا تحرق “جمرة” فقدان الأدوية من الصيدليات إلا من هو بحاجة إليها. المرضى لم يعودوا يتلوّون من الوجع، بقدر ما يتعذبون في إيجاد العلاج. “كل شي مقدور عليه إلا الصحة”، يقول مريض على باب صيدلية، “المأكل والمشرب يؤمّنان، والكهرباء والتنقلات يُصبر عليهما… ولكن لا أحد يحتمل الوجع وغياب العلاجات”. بهذا التوصيف البسيط يشخص المريض علّة النظام الذي فشل في اجتراح حل يتيم لأكثر الأمور إلحاحاً منذ انفجار الأزمة في تشرين الاول 2019.

 

ترشيد الترشيد

 

كان من المفترض أن تُبصر خطة ترشيد دعم استيراد الدواء النور قبل 7 أشهر من اليوم. وقد قضت باستمرار مصرف لبنان في دعم أدوية الأمراض المزمنة والتي تحتاج وصفة طبية بنسبة 85 في المئة على سعر 1500 ليرة، ويؤمن المستوردون 15 في المئة على سعر 3900 ليرة. في المقابل يُخفّض الدعم على بقية الأدوية التي لا تحتاج إلى وصفة طبية OTC، والتي يطلق عليها تعبير (الشراء عبر الكونتوار)، بحيث يصبح استيرادها على أساس سعر المنصة أي 3900 ليرة. هذه الآلية التي تخفض الدعم من نحو 1.1 مليار دولار إلى 750 مليوناً على صعيد سنوي، لم تعد صالحة اليوم. و”أصبحنا بحاجة لترشيد على الترشيد”، يقول مصدر متابع. و”ما تجميد مصرف لبنان فواتير لمستوردي الأدوية بقيمة 600 مليون دولار، إلا خير دليل على استحالة الإستمرار بالدعم. فالإحتياطيات نفدت والدعم يؤمن اليوم من التوظيفات الإلزامية بمراسيم رئاسية. وإذا ما استمرت الموافقات الإستثنائية بـ”الهطول” على مصرف لبنان لدعم الكهرباء والمشتقات النفطية والأدوية والمستلزمات الطبية، فسنصحى بعد أشهر قليلة على نفاد التوظيفات؛ هذا إن سلمنا جدلاً بصحة أرقام مصرف لبنان وامتلاكه لسيولة نقدية بالمبالغ التي يدعي وجودها. ومن بعدها لا يعود هناك محروقات ولا كهرباء ولا دواء بسعر معقول.

 

الأفضلية للدواء، ولكن!

 

مرحلة الفوضى التي دخل بها البلد أصبحت تحتم على المسؤولين العمل على الأولويات. والأفضلية اليوم هي لتأمين الأدوية والعلاجات، على حساب بقية السلع والخدمات. وإن كان للبد، فيجب رفع الدعم كلياً عن المحروقات التي يذهب أكثر من نصفها على التهريب والتخزين.. وتجيير أرصدة دعمها للدواء. لكن هذا لا يعني بحسب الصيدلي د. أيمن باز “المضي قدماً بخطة ترشيد الدعم التي وضعتها اللجنة المؤلفة من وزارة الصحة والشركات المستودرة وبعض المعنيين، لانها تتضمن مصلحة بعض التجار على حساب مصلحة القطاع. وقد تم حشوها بدعم الكثير من الأدوية التي يمكن استبدالها بأرخص، أو التي لا يتوجب دعمها كلياً”. وعلى سبيل المثال فان الخطة الموضوعة تدعم استيراد البنادول Panadol بمعدل 30 مليون علبة سنوياً، في حين أن هناك 4 معامل وطنية تصنع باراسيتامول PARACETAMOL بنفس الجودة والمكونات. وعلى الرغم من معرفة المعنيين أن المواد الأولية التي تدخل في تركيب الدواءين هي نفسها، وأن ما يفرق في السعر هو الدولة التي يصنّع بها، فقد أصروا بحسب باز على استيراده. و”مثله الكثير من الأصناف والأدوية التي تعود لكبار التجار الذين ليس من مصلحة الوزارة إغضابهم”. من هنا يرى باز أن “المطلوب اليوم الإستمرار بدعم أدوية الأمراض المستعصية التي تعطى بناء على وصفة طبية، مع إعطاء الأفضلية للمنتجة محلياً والجنيسة “generic”، والتوقف عن دعم أدوية “الماركات”. وفي المقابل يرفع الدعم بشكل كلي عن أدوية OTC ويتحدد سعرها بحسب سعر السوق. هذه الآلية من شأنها توفير الأدوية لكل المواطنين ووقف التهريب والتلاعب بسوق الدواء.

 

التقنين مستمر

 

من جهتها تعتبر الدكتورة الصيدلانية منار أنيس موسى أن “الوضع أصبح خطيراً لدرجة يتطلب اتخاذ قرارات سريعة وتحركات فورية من قبل وزارة الصحة، وهذا ما لا يحدث لغاية الآن من دون معرفة سبب التأخير. فعملية الإستيراد متوقفة بشكل كامل منذ أكثر من شهر بسبب توقف الدعم. وحتى لو عاد مصرف لبنان ودعم الإستيراد بقيمة 60 مليون دولار شهرياً، فهناك مستحقات مسبقة بقيمة 600 مليون دولار عليه البدء بتسديدها ليتمكن التجار من استئناف الإستيراد”. إنطلاقاً من هذا الواقع فان “الشركات ترسل علبة دواء واحدة شهرياً من كل صنف في حين أن الحاجة بالعشرات. وهناك أصناف مثل حليب الأطفال أصبحت مفقودة كلياً من الصيدليات. أما الحصول على أدوية الأمراض المزمنة فقد أصبح يتطلب وصفة طبية تعطى للصيدلي، الذي يقوم بدوره بارسالها إلى الشركة المستوردة، وبعد الموافقة عليها يتم تأمين علبة الدواء. هذه الآلية التي تتطلب عدة أيام، لا تصح إطلاقاً على أدوية السيلان والتجلط التي توصف للمرضى الجدد والحوامل.

 

“يعطي الدواء وهو عليل”

 

في الوقت الذي يتطلع فيه المرضى إلى الصيدليات “بعين الحسرة”، أصبح لسان حال الصيدلي “يعطي الدواء وهو عليل”. فالصيدليات هي القطاع الخاص الوحيد في البلد الذي ما زال يتقاضى دخله على سعر صرف 1500 ليرة ويصرف على 18000 ليرة. فجعالة أصحاب المحطات على سبيل المثال كانت ترتفع مع ارتفاع أسعار النفط حتى قبل تخفيض الدعم إلى 3900 ليرة. كذلك الأمر بالنسبة إلى أفران الخبز العربي، حيث ارتفع سعر ربطة الخبز من 1500 ليرة إلى 4000 ليرة، من دون أن نقارب الأسعار مع بقية الأصناف المنتجة في الأفران. “وحدها الصيدليات بقيت أسعارها ثابته ومحددة بربح 22 في المئة يذهب 2 في المئة منه ضرائب. ومن دون أن يكون هناك أي قرار جدي أو حتى مسودة تشي باحتمال تغيير سعر الصرف وبالتالي تحسين الجعالة”، تقول موسى. “فمن بين كل الأصناف تم رفع الدعم عن حليب الأطفال للفئة العمرية بين 1 و3 سنوات ووصل سعر العبوة إلى 245 ألف ليرة، ما أدى إلى إحجام الكثيرين عن شرائها”. هذا الواقع لا يمكن أن يستمر من وجهة نظر موسى، ذلك أن “الصيدلي أصبح يعمل باللحم الحي. وإن لم تتغير المعادلة هذا الأسبوع ويتخذ قراراً جدياً بشأن ترشيد الدعم أو إيجاد المخارج المنطقية لإنصاف الصيادلة، فاننا ذاهبون من دون إستثناء إلى إضراب عام شامل ومتواصل إلى حين إنصافنا”.

 

أمام كل ما تقدم يظهر واضحاً أن خطط الترشيد الموقتة لم تعد ذات جدوى، وهي إن نجحت لأيام، ستعود وتفشل بعد فترة وجيزة مسببة ضرراً أكبر. فالإهتراء العام لم تعد تنفع معه علاجات الترقيع بالمفرد، بل يتطلب حلاً بالجملة، بتمويل ورقابة دوليين، وإلا فان وقوع الكارثة أصبح وشيكاً.