Site icon IMLebanon

عِبَر التمديد العسكري وخلاصاته

 

الأسباب الموجبة للتمديد لقائد الجيش ثلاثة: غياب رئيس الجمهورية الذي يعيِّن قائد الجيش، الحرب التي اندلعت جونباً على أثر 7 تشرين، عدم التلاعب بآخر عواميد الاستقرار بانتظار انتهاء الحرب وعودة الانتظام الدستوري. ولكن على رغم هذه الأسباب لم يكن التمديد ليمرّ لولا تداخل عوامل عدة.

الفريق السياسي الوحيد الذي جاهَر علناً برفض التمديد وخاضَ مواجهة شرسة ضده هو النائب جبران باسيل، ومواجهته لا علاقة لها بمبدئية يتحدّث عنها، ولا حاجة للإطالة في هذه النقطة لأن الشريحة الأكبر من اللبنانيين على قناعة تامة بأنّ معركته شخصية. والدليل تعبيره المعلن عن سوء أمانة يؤشّر إلى الذهنية التي تتعامل فيها بعض القوى السياسية تجاه من تقترحهم لتسلُّم مواقع عامة، فتريدهم ان يكونوا أوفياءً لهم لا للموقع الذي يشغلونه، وهذه من الآفات التي يجب مواجهتها والحدّ منها إذا كان متعذّراً القضاء عليها بهدف محاربة الزبائنية السياسية لمصلحة، ليس فقط الشخص المناسب في المكان المناسب، إنما تحصينه من كل التدخلات تمكيناً لتأدية واجبه الوطني، وهذا ما يسجّل للعماد جوزف عون الذي حصر اهتمامه بمؤسسة الجيش ووقف على مسافة واحدة من الجميع.

 

وقد لقيَ النائب باسيل تجاوباً من «حزب الله» الذي لا يريد ان يخسر تحالفه معه بعدما افترقا رئاسيا وابتعدا سياسيا، وفي حال أيّد التمديد فهذا يعني مجازفته بإنهاء تحالف مار مخايل، ولا مصلحة له بخسارة حليف مسيحي يؤمِّن له الغطاء لسلاحه ودوره، ويمنحه عمقاً خارج البيئة الشيعية، ويتولى مواجهة «القوات اللبنانية». ولكن على رغم هذا التجاوب لا مصلحة للحزب في خوض مواجهة علنية وشرسة على طريقة باسيل ضد التمديد لعدم رغبته في الظهور بمظهر مواجهة الجيش والإساءة إلى علاقة محترمة مع قائده، فترك المهمة لرئيس تيار الذي إذا نجح يكون قد حقّق له على الطريق ثلاثة أهداف أساسية: توجيه رسالة للغرب بأنّ الرهان على الجيش كأداة لتنفيذ القرار 1701 ليس في محله، تعطيل المبادرة لدى المؤسسة العسكرية، لأنّ أي شخص يتولى المسؤولية في ظل شغور وحرب وانهيار وانقسام لن يكون باستطاعته القيام بالدور المطلوب منه على أكمل وجه، وكيف بالحري إذا كان هذا الشخص قد تبوّأ موقعه على حساب من هو موجود ومدعوم من كتلة داخلية وخارجية وازنة، ولكونه ثالثاً لا يريد ان تسجّل عليه سابقة بأنه تخلى عن التمديد للمدير العام للأمن العام وغَض النظر عن التمديد لقائد الجيش.

 

ولو كان النائب باسيل وحيدا في مواجهة التمديد لكان حُسم هذا التمديد باكراً، إلا ان وقوف «حزب الله» خلفه أخّر حسمه حتى اللحظات الأخيرة، ما يعني ان دور الحزب وراء الكواليس كان ضدّ التمديد، إلا انّ حراجته بتظهير موقفه أدى إلى إضعاف الجبهة الرافضة للتمديد، والدليل ان إصراره المعلن على مرشّح رئاسي أدى إلى الشغور المفتوح، وهذا ما استفادت منه القوى التي تريد في هذه المرحلة إبقاء القديم على قدمه.

فلا أحد يمكن ان يصدِّق انّ الرئيس نجيب ميقاتي في وارِد تأدية خدمة لباسيل، وتَردُّده منذ اللحظة الأولى في حسم التمديد حكومياً وتعيينه جلسة في وقت مريب بالتزامن مع الجلسة التشريعية، يؤشّر بوضوح إلى تأثره بموقف «حزب الله» الرافض للتمديد، ولكن نقطة ضعف الحزب انه لا يستطيع المجاهرة بموقفه، ولو لم تَتشكّل جبهة مؤيدة للتمديد وبقوة لكان خرج باسيل منتصراً من معركته، خصوصاً انه تقاطع أكثر من عامل مرجّحاً المواجهة لمصلحة التمديد:

 

العامل الأول: بكركي التي خاض سيّدها مواجهة شرسة دفاعاً عن الموقع الماروني الثاني في الدولة وخشيته من التفريغ المتمدِّد على المواقع المارونية وفي طليعتها رئاسة الجمهورية ومن ثمّ حاكمية مصرف لبنان. ولم يكتفِ البطريرك بشارة الراعي بالمواقف المعلنة، إنما تولى أرفع وأوسع اتصالات ممكنة من أجل إبقاء قائد الجيش في موقعه.

 

العامل الثاني: «القوات اللبنانية» التي خاضت بدورها مواجهة شرسة ذهبت فيها إلى النهاية وفاجأت أخصامها بتخلّيها عن رفض التشريع في ظل الشغور من منطلق ان الضرورات تبيح المحظورات، وان الدساتير وضعت لتحصين وضع الدولة وحماية الناس، وعندما يكون هناك ما يتهدّد البلد وشعبه يجب إعطاء الأولوية لهذا الجانب والذي يترجم هنا في استمرار القيادة التي اكتسبت خبرة وصُدقية وأثبتت عن كفاءة ونجاح.

 

العامل الثالث: المعارضة التي رغم تباينها بين مَن مع التمديد في الحكومة او في المجلس تقاطعت على ضرورة التمديد، وعندما وجدت انّ الحكومة لم تقم بالمهمة شاركت في التشريع الذي ترفضه في زمن الشغور انطلاقاً من ضرورة الحفاظ على آخر عمود للاستقرار في لبنان.

 

العامل الرابع: الرأي العام المسيحي العريض الذي وقف بقوة مع التمديد ربطاً بثلاثة اعتبارات أساسية: الخشية على أمنه في مرحلة مضطربة عسكريا وماليا وسياسيا، تعلّقه بمؤسسة الجيش ورفضه كلام النائب باسيل المُستفِز بحق قائده، والخشية على الحضور المسيحي داخل الدولة في ظل انطباع عام بأنّ ما يحصل ليس عفوياً، إنما يندرج في سياق خطة ممنهجة لإضعاف الدور المسيحي تمهيدا لمرحلة جديدة.

 

العامل الخامس: التقاطع الثلاثي المسيحي والسني والدرزي على التمديد لقائد الجيش ومدير عام قوى الأمن الداخلي، وقد شكّل هذا التقاطع الذي ترجم من خلال دمج اقتراحات القوانين نقطة قوة نيابية والأهم وطنية في ظل تقاطع ثلاث طوائف على عنوان واحد.

 

العامل السادس: الرئيس نبيه بري الذي تعامل مع هذا الاستحقاق على قاعدة ثلاثة لاءات ضمنية: لا لإهداء باسيل انتصارات سياسية، لا لاستفزاز المناخ المسيحي وتحديداً بكركي، لا لقطع الخطوط مع اللجنة الخماسية التي تريد التمديد وتعوِّل على دور بري في أكثر من مجال.

 

ولا بدّ من الإشارة في هذا السياق إلى ان «حزب الله» لا يريد ان يقطع شعرة معاوية مع اللجنة الخماسية من خلال الرئيس بري في اللحظة التي يُعاد فيها بحث القرار 1701.

 

العامل السابع: اللجنة الخماسية التي تريد التمديد لاعتبارات تبدأ بهندسة الوضع الحدودي مع إسرائيل ولا تنتهي بالخشية من إضعاف الجيش وشَلّه وانهيار الاستقرار.

 

ومع تقاطع كل هذه العوامل لم يعد باستطاعة «حزب الله» رفع منسوب ضغوطه لمصلحة خيار النائب باسيل، لأنه ليس لديه مصلحة أيضاً باشتعال الجبهة السياسية بالتزامن مع اشتعالها عسكرياً على الحدود، وان يضع نفسه في مواجهة الداخل اللبناني والخارج العربي والغربي، ففَضّلَ الاكتفاء بتسجيل موقف متضامن مع باسيل من دون ان يلجأ إلى سياسة الفيتو.

 

وعلى رغم انّ قائد الجيش هو المنافس الرئاسي لرئيس تيار «المردة» سليمان فرنجية، إلا ان الأخير تعاملَ بذكاء وتعالٍ مع هذا الاستحقاق وتقاطَع هذه المرة مع المناخ المسيحي العريض المؤيِّد للتمديد، فيما باسيل أثبتَ انّ اعتباراته الشخصية تتحكّم بكل ممارساته، وأخطأ في مقاربته هذه المعركة التي خسرها، ليس فقط بحصول التمديد، وهو عامل ثانوي، إنما على مستوى الرأي العام المسيحي الذي اشمأزّ من طريقة التخاطب مع موقع قيادة الجيش.

 

وما لم يدركه باسيل بعد ان الأسلوب الذي اعتمده الجنرال ميشال عون وأكسبه شعبياً انتهى إلى غير رجعة وكان له وقته وزمنه، خصوصاً انّ الناس اكتشفت زيف شعارات هذا الفريق، ولم تعد تتقبّل هذا الأسلوب الذي يأخذ الطابع الشخصي الحاد ويمسّ بالكرامات، وهو بعيد عن اي اعتبار سياسي وغير مُسند إلى إثباتات ودلائل، وعلى باسيل ان يعيد النظر بهذه الطريقة بعدما أصبحت نتائجها سلبية جدا عليه.

 

أما العِبَر التي يفترض استخلاصها من معركة التمديد فتتمثّل بالآتي:

العبرة الأولى: لا يجب إطلاقاً التعامل مع اي استحقاق بأنه محسوم سلفاً، فالحياة السياسية متحركة، ولكل معركة ظروفها، وعلى القوى المعنية التعامل فقط بجدية مع كل الاستحقاقات بعيدا عن اي اعتبارات وحسابات من قبيل قدرة هذا الفريق بسبب سلاحه او غيره، فالعوامل السياسية وتقاطعها ترجِّح وحدها كفّة الميزان.

 

العبرة الثانية: انّ وحدة الموقف بين بكركي والقوى المسيحية والرأي العام المسيحي قادرة ان تفعل فعلها، وما يجب تسجيله على هذا المستوى انّ السباحة العكسية المتواصلة للنائب باسيل، أي عكس المزاج العام المسيحي، َجعلته خارج دائرة التأثير المسيحي.

 

العبرة الثالثة: التقاطع الوطني الذي نجح عسكرياً لم ينجح رئاسياً، ولو نجح في الانتخابات الرئاسية لكان سيضطر «حزب الله» للانتقال إلى الخيار الثالث. وبالتالي، عندما تتوفّر لأي مواجهة بيئة وطنية تُصبح إمكانية كسبها مرتفعة أكثر. وكلمة حقّ تُقال انّ المساعي لإنضاج تقاطع وطني حول مرشّح رئاسي لم تتوقّف، ولكنها لم تثمر لعدة عوامل واعتبارات لا مجال هنا لبحثها وتفنيدها.

 

العبرة الرابعة: انّ وحدة صفوف المعارضة وتماسكها تشكّل حاجزا مهما لقطع الطريق على سياسات الأمر الواقع، وقادرة بوحدتها ان تشكل الجسر لإنضاج توافقات وطنية.

 

العبرة الخامسة: انّ الخارج لوحده غير مؤثِّر ما لم يتقاطع على عنوان مشترك مع قوى داخلية مؤثرة، والكلام عن انّ الخارج هو الذي طلب من القوى السياسية التمديد في الزيارة الأخيرة للموفد الرئاسي الفرنسي جان إيف لودريان كلام فارغ، بدليل انّ معظم هذه القوى واجهت المبادرة الرئاسية الفرنسية ودفعتها إلى التخلي عنها لمصلحة خيار ثالث.

 

العبرة السادسة: إبقاء قدر الإمكان من خيوط العلاقة السياسية بين القوى المتخاصمة والتي يمكن ان تتلاقى وتتقاطع في لحظات معينة، وذلك في بلد يصعب فيه تحقيق ضربات قاضية إلا في ظروف استثنائية.

 

العبرة السابعة: المُزاوجة الدائمة بين المبدئية والبراغماتية، فالمبدئية الصافية يصعب ترجمتها سياسياً، كما ان البراغماتية الصافية تعني التنازلات والمساومات، فيما التوازن الدقيق بينهما أساسي جداً، لأنّ المطلوب ليس تسجيل المواقف ولا التسويات المُزِلّة، إنما الوصول إلى الحلول التي تريِّح البلد والناس.