Site icon IMLebanon

بيان وزاري واعد ولكن…

 

كنت أترقب بقلق البيان الوزاري. خير الإمكانيات وأسوأها، بدت متاحة. هل سينتهز العهد الجديد فرصة تاريخية لاجتثاث آثار 35 سنة من قناع لبناني لهيمنة فلسطينية، ليلحق بها احتلال سوري ثم إيراني، اتسمت بالقمع والفساد وطمس الهوية الوطنية؟ أم أن العهد الجديد سيخلق دولة حديثة تصون الحقوق والحريات الفردية والجماعية وتضمن تطبيقها.

 

 

البيان الوزاري الذي سرّبته وسائل التواصل يجد مكانة رفيعة ضمن بيانات لبنان الوزارية. اتسمت فقراته الـ24 بدقة لم نعهدها في بيانات حكومات لبنان طوال عقود الاحتلال. لكنه لا يخلو من غلو إلى جانب خلوّه من ميكانيكيات التطبيق وكيفية تغطية النفقات الهائلة لإعادة الإعمار والإصلاحات المقترحة. يخيل لقارئ البيان أنه يقلّب صفحات من كتاب “اليوتوبيا” لتوماس مور الذي يصف عالماً مثالياً لا علاقة له بالواقع. السرد المثالي خيار مشروع وليس محل إدانة. غير أن ثمة خياراً آخر ربما كان أدنى لحاجة لبنان. إنه خيار خاطب به ونستون تشرتشل مجلس العموم في بداية الحرب العالمية الثانية وفي أحلك أيام بريطانيا. “ليس لدي ما أقدّم إلا الدماء والجهود الشاقة والدموع والعرق”. خطاب ضمن منجزات رفعت ونستون تشرتشل إلى مصاف الشخصيات التاريخية.

 

لو كنت في موضع المسؤول للجأت إلى خيار تشرتشل حيث لا يخرج البيان عن إطار الممكن ولا يترك مجالاً للإسراف بالتوقعات فنصاب جميعاً بخيبة أمل تنعكس سلباً على العهد الواعد.

 

أكثر ما كنت أخشى في البيان هو الغموض. لكن البيان الوزاري جرى لدرجة كبيرة على وضوح خطاب القسم. الحياة السياسية تقتضي الغموض كما الوضوح. لكن ما يتحكم بالخيار هو أوضاع صاحب الخيار. إن كان قوياً اعتمد الغموض، واستعان بالوضوح في حال ضعفه. الغموض يستدعي الإيضاح، والإيضاح يمنح القوي فرصة يضيف بها إلى مكاسبه. على عكس الضعيف الذي لا حماية له إلا وضوح النصوص. التزم البيان الوزاري بصورة عامة بالوضوح، غير أن استثناءات شابته أهمها إشارته إلى”جميع القرارات السابقة”. كان من الأجدى تسمية تلك القرارات الدولية وذكر أرقامها بذلك يضع حداً لكل محاولة تعطيل تبعاً لقاعدة “لا اجتهاد في معرض النص”.

 

 

 

أمران يجعلان الإصلاحات التي يعددها البيان بعيدة المنال. اولهما طبيعة الحكومة الانتقالية، وثانيهما تأمين نفقات هذه الإجراءات التي لا تزال رهينة شروط قد لا تتوفر. الوزارة الحالية لها مهمة ذات أجل يتوجب عليها الاستقالة بعدها فليس من شأنها الوعد بمشاريع اجتماعية وصحية وتنموية وشبابية تعد الأجيال الطالعة لمتطلبات الحياة في عالمنا الحالي والقادم من الأيام. ثم هناك في النص ما يثير بعض هزءٍ. عند الإشارة إلى دور المرأة يتبدل الأسلوب اللغوي فنقرأ “اللبنانيين واللبنانيات”. “هم وهنّ” وهذا لزوم ما لا يلزم. اللغة العربية بشكلها المعتاد تفي بالغرض، هناك في علم اللغة ما يعرف بـ “المعنى” وما يعرف بـ “الاصطلاح” وفي حال التعارض يؤخذ بالاصطلاح. فـ”اللبنانيون” لغةً هم الذكور من شعب لبنان تقابلهم “اللبنانيات”. فمن نادى بأيها اللبنانيون، يخاطب الجميع ذكوراً وإناثاً.

 

 

 

إلا أنني لا أرى مبرراً في عدم الإشارة إلى إصلاح جوهري لا يتطلب إجراؤه أي نفقة. إنه حل المحكمة العسكرية.

 

 

 

من بين ما يميّز الأنظمة بين الديمقراطي والسلطوي هو النظام القضائي. المحاكم العادية في الديمقراطيات تفي بحاجات كل نزاع. مجرد اعتماد المحاكم الخاصة في أي نظام يقطع بطبيعته السلطوية. في المرحلة الذهبية في تاريخ لبنان الحديث لا نقف على أي وجود للمحاكم العسكرية الدائمة ما عدا ما انحصر بالجيش والقوى المسلحة لأغراض تتعلق بالانتظام. سرى مبدأ المحكمة العسكرية الدائمة في فترة الاضطرابات التي أعقبت امتداد التسلط الفلسطيني وحلفائه وكان ذاك الجهاز القضائي في بدايته في خدمة المسيحيين، ولكن “ليس من طبع الليالي الأمان” تبدل الزمن فانتقلت المحكمة العسكرية لخدمة السلطة السورية وقمع أعدائها وقامت بنفس الخدمات للحقبة الإيرانية. من مآخذنا كحقوق إنسان على المحكمة العسكرية هي إجراءاتها. أحكامها غير معللة وفترات مثول المتهم أمامها كان من 50 ثانية إلى 70 ثانية في محاكمة جيش لبنان الجنوبي، إلى سنوات يقضيها المتهم من دون أن يواجه قوس المحكمة. في سجلاتنا حالة سبّاك “سنكري” من طرابلس وجد رقم هاتفه مسجلاً في هاتف أحد الأصوليين. ألقي القبض عليه ولم يطلق سراحه إلا بعد ثلاث سنوات ونصف في أثنائها مرت أسرته بحالة عوز وتشرد.

 

 

 

لكن المأخذ الأكثر أهمية في البيان الوزاري هو إسقاطه كل ذكر لداء لبنان البنيوي. فساد الإدارة وحروب لبنان لا حلّ لها إلا بالعودة إلى سببها البنيوي ووضع حلول لها. ذاك هو الحل الوحيد الدائم الذي يضمن إيقاف التبدل السكاني وتحوّل صورة لبنان إلى ما لا نرجو.