IMLebanon

«الأقليّات» ترسم ملامح الديموقراطية الجديدة

من أجل فهم أفضل للتحركات الشعبيّة

«الأقليّات» ترسم ملامح الديموقراطية الجديدة

 

منذ بداية التحرّكات الشعبيّة في لبنان الأسبوع الماضي، وما رُفع فيها من شعارات، وما تَعرّض له المشاركون فيها من مضايقات أدّت إلى صدامات مع رجال الأمن، تخلّلها إطلاق رصاص واعتقالات، طُرح الكثير من الأفكار حول الجهات التي تقف وراء تلك الانتفاضة الشعبيّة، ودور أزمة النفايات في جعل مرجل الغضب ينفجر.

إلاّ أنّ ما لم يخطر في بال المنظّرين، وحتّى المشكّكين في صدقيّة المنتفضين، ومعظمهم من جيل الشباب، أنّ هؤلاء هم جزء من حركة «كونيّة» بدأت مع الثورة التكنولوجيّة، وولادة قارّة جديدة هي «قارّة المعرفة» أو «القارّة السيبيريّة»، حيث أوجدت الإنترنت وشبكات التواصل الاجتماعي، على أنواعها، ما يُعرف بـ «الشراكة في الوعي» حيال قضايا وهموم مشتركة، لو تَسنَّت سابقًا لجماعات الرفض وسائل الاتصال والالتقاء، لكانت فجّرت أكبر ثورة في العالم المعاصر.

ذلك بأنّ استفراد الأكثريّات للأقليّات، وهي أكثريّات متوحشة، تربّعت على عروش السلطة جرّاء فوزها بنسبة 51 في المئة، وأقلّ بكثير أحيانًا، فطغت على الـــ 49 في المئة الأخرى، وعزلتها وهمَّشتها. كما أدّى استغلالها للعصبيّات الطائفيّة والمذهبيّة والإثنيّة إلى إجهاض إمكان تحوّل الأقليّات أكثريّة جديرة بالحلول مكان الأكثريّة المتسلّطة، وتصحيح أخطائها.

والمقصود بالأقليّات هنا ليس تلك التي عرفناها في لبنان والعالم العربي، أي الأقليّات الطائفيّة والمذهبيّة والإثنيّة، وحتّى العنصريّة، بل الجماعات التي يتكوّن منها المجتمع، على تعدّدها وتنوّعها، مثل منظومة المجتمع المدني التي تضمّ حركات اجتماعيّة وفكريّة وثقافيّة وبيئيّة وشبابيّة وطالبيّة وقطاعيّة ومناطقيّة وجندرية ألخ… والتي تُعتبر حركة «طلعت ريحتكن» و «بدنا نحاسب» و «عكار ليست مزبلة» و «طفح الكَيل» وغيرها أبلغ مثال عليها، إلى جانب الحركات التي نزلت سابقًا إلى الشارع معبّرة عن مطالبها، مثل التجمّعات المناهضة للعنصريّة، وللعنف الأسري، والعنف ضدّ المرأة، والمطالبة بإلغاء الطائفيّة، وإقرار الزواج المدني، ومنح المرأة جنسيّتها إلى أبنائها، وتلك الداعية إلى نظام مدني علماني، وما إليها من حركات لو تيسّر جمعها في وقت ما، ومكان واحد، لشكّلت أعظم أكثريّة شعبيّة يمكن أن يتصوّرها لبناني. يُضاف إلى هؤلاء ما تشهده بعض المجتمعات من حركات رفضيّة يُتّهم أصحابها ظلمًا بـــ «الإرهاب» لأنّهم لا يملكون سوى أرجلهم وقبضات أيديهم في مواجهة الظلم، والإفقار، والبطالة، والتخلّف الاجتماعي والثقافي والاقتصادي، ومصادرة الموارد ونهبها، واستنزاف الطاقات الإنسانيّة بالتهجير والتغريب.

وقد أطلق باحثون مهتمّون بتطوّر الأنظمة السياسيّة في العالم على هذه الظاهرة عبارة «صدمة المستقبل»، أو «الموجة الثالثة نحو حضارة جديدة»، في مقابل الموجة الأولى التي تمثَّــلت في الثورات الاجتماعيّة والمجتمعات الزراعيّة والريفيّة، والثانية التي أوجدتها الثورة الصناعيّة التي ولّدت الجماهير، ووحدات الإنتاج العملاقة التي حقّقت تقدّمًا للآلة على الإنسان الذي تحوّل عبدًا لها. أمّا الثالثة فهي ثورة التكنولوجيا أو «ثورة المعرفة» التي هدفت إلى إعادة الاعتبار إلى المواطن الفرد والتعدّد الذي يضمن حقوق الجميع داخل المجتمع في مواجهة التكتلات الكبرى، سياسيّة كانت، أم اقتصاديّة، أم إعلاميّة.

ولقد بدّلت هذه الموجة طريقة وصول الناس إلى المعلومات، كما بدّلت أساليب التفكير والقراءة والتحليل، دافعة المجتمعات الباحثة عن نظام ينسجم مع متطلبات القرن الحادي والعشرين إلى ديموقراطيّة جديدة توفّر المزيد من الحريّة والانفتاح والتشاور المؤدية إلى أوسع مشاركة من الأقليّات المكوّنة للمجتمع في القرارات التي تخدم مصلحته.

وهذا البحث يُلقي ضوءًا كاشفًا على أزمة الأكثريّة في النظام الديموقراطي والتي يُعتبر النظام اللبناني إحدى ضحاياها، عبر استئثار أكثريّة معيّنة بالسلطة، وتعطيلها مشاركة «الأقليّات» المختلفة في صنع القرار، في مجتمع تعدّدي يُعتبر المكان المثالي لاختبار تجربة «الموجة الثالثة».

«الموجة الثالثة»

ثمّة تمييز بين سياسيين رجعيّين، متأخرين، يعملون للمحافظة على ماضٍ غير صالح للحاضر، وآخرين مستعدين للعبور نحو ما نصفه بـ «الموجة الثالثة»، التي تُعنى بـ «مجتمع عصر المعرفة». بما يعني استحالة العودة إلى التماثل، والتطابق، والبيروقراطية والقوة الاقتصادية «المتوحشة». وهي تعني أيضًا الثقافة والأفكار والمؤسسات والهيكلية السياسية. انها باختصار تغيير حقيقي في الأمور الإنسانية.

وهناك من يرى قضايا تتقدم سواها وتحتاج إلى عناية مثل الطاقة، والحرية، والفقر، والبيئة، وتفكك الهيكلية العائلية.

اننا أمام مجتمع ينتقل من مجتمع فلاحين وعمال صناعيين، إلى مجتمع معرفي، إلى مجتمع المعلومات حيث تدخل هذه في كل نواحي الصناعة، وخصوصًا في حقول المال، وبرامج المعلوماتية، والترفيه، والإعلام، والاتصالات، والخدمات الطبية، والاستشارات، والتدريب والتربية: أي الصناعات القائمة على العقل أكثر من العضلات.

وعلى نقيض الكتل والوحدات الكبيرة Mass Production، التي سادت العصر الصناعي، فإن عصر ما يُعرف بـ «الموجة الثالثة» يقوم على تحرير الأفراد داخل تلك الكتل واظهار تمايزهم، مما يجعل إعادة تكوين تلك الكتل، أمرًا غاية في الصعوبة. وهذا يعني الاعتماد على وحدات صغيرة ومتوسطة، والاستثمار في البحوث، والتدريب والتعليم، والموارد الإنسانية. والتحدي هنا هو في التجديد والابتكار المتواصلين، وتحقيق أعلى إنتاجية للإنسان.

انها موجة ترمي إلى تفكيك شبكات الإنتاج الهائلة (Demassification) اضافةً إلى تفكيك شبكات التوزيع، والتعليم، والتكتلات الإعلامية، والترفيهية.

وهي تعتبر الكتل أو التكتل أو الحشود الجماهيرية أبرز ما أنتجته «الموجة الثانية».

أما الهدف من الثالثة فهو إنتاج عامل مختلف، مفكّر، يطرح اسئلة، يجدد ويقوم بمجازفات مقاولاتية. عامل يصعب الاستغناء عنه. أي تعزيز الفردية والذاتية في مواجهة الجماهيرية والكتل البشرية الطاغية، وصولاً إلى تعدد أنواع القهوة، في مقابل الأنواع المحدودة التي كانت تعرض سابقًا.

وهذا التفكيك للكتل يشمل الثقافة والقيم والأخلاق، اضافة إلى الترفيه والتحركات السياسية، وحتى المعتقدات الدينية.

والآن كيف ستتم عملية التفكيك؟

الجواب: في التنوع والتعقيد يتم نسف منظومة المنظمات المركزية، بدءًا بكسر حصرية القوة، وإيجاد مراكز قوة عديدة، أي وضع «الكثير من بيض القرارات في سلل عدة، بدل حصرها في شخص واحد، أو في مؤسسة واحدة. أي تثقيل السلة، بمعنى توزيع البيض على سلل عدة، بدل وضعه في سلة واحدة.

حتى العائلة تغيّرت: اختلاط الأجيال، رجال ونساء متزوجون ثانية، عائلات صغيرة، وأخرى من دون أطفال، في مقابل أزواج يفضلون التأخر في انتاج أولاد إلى سن متقدمة.

مطلوب بدائل: قوة الأقلية

يجب أن نبتكر بدائل جديدة، ونناقش، ونخالف، ونعارض، ونعيد رسم ديموقراطية الغد، عبر التشاور الواسع، والمشاركة الشعبية السليمة، والتوحّد في اتجاه الهدف.

ويجب إيجاد انسجام بين القانون والمؤسسات، مع التحذير من تقديس الدساتير وجعلها فوق التعديل أو عصية عليه. وفي الوقت الذي تنجز اكتشافات جديدة، فإن حقائق جديدة ستظهر، كما تتبدل المواقف بتبدل الأوضاع.

ولعل أول مواليد «الموجة الثالثة» قوة الأهلية (المجتمع المدني). وهنا لا يعود يحسب حساب الأكثريات، بل الأقليات.

والديموقراطية الجماهيرية هي التعبير السياسي عن الانتاج الكبير، وكذلك الاستهلاك الواسع، والإعلام الجماهيري، والمجتمع الكبير، بحيث يصعب توفير توافق على القضايا الرئيسية، خصوصًا انه ليس هناك علاقة بين حكم الأكثرية والعدالة الاجتماعية.

كذلك لا يعود حكم الأكثرية مناسبًا لنيل الشرعية من حيث المبدأ، ذلك بأن التنوع المخصّب سيتيح فرصة أمام التطور الإنساني، بصرف النظر عن نعت الفردية بالأنانية، أنانية الأقلية.

ان حركة الأقليات هي انعكاس للحاجة إلى نظام جديد في الانتاج. وهكذا تكون ديموقراطية القرن الحادي والعشرين قائمة على تطور اجتماعي أساسه الأقلية.

والفكرة الخاطئة السائدة والمخيفة هي ان زيادة التنوع تستدعي زيادة في التوتر والنزاعات داخل المجتمع. بينما العكس هو الصحيح. فالنزاع داخل المجتمع ليس ضروريًا فحسب، بل هو مرغوب، ولكن ضمن حدود. فإذا كان هناك 100 رجل يائسون من الحصول على شيء ما، فإنهم سيناضلون من أجله. ومن جهة أخرى، إذا كان لكل واحد من المئة هدفه الخاص، فإن وصولهم إلى الهدف الأوحد يحتاج إلى تفاوض وتعاون وتشكيل نوع من العلاقات التكافلية. وفي حال كانت هناك ترتيبات اجتماعية، فإن التعدد أو التنوع من شأنه ضمان حضارة مستقرة. وان غياب مثل هذه المؤسسات يؤدي إلى نزاعات بين الأقليات واثارة موجات من العنف. ذلك ان غياب المؤسسات المناسبة يفضي إلى التصلب، وإلى صعوبة تكوين حتى الأكثريات.

والحل هو في تخيّل ترتيبات جديدة للتكيف مع الوضع الجديد وشرعنة التنوع. أي إنتاج مؤسسات تتجاوب مع حاجات الأقليات وتضاعف عددها.

وسيأتي يوم ينظر فيه المؤرخون إلى نظام التصويت والبحث عن الأكثريات، كأنه جزء من طقوس بائدة، تعود إلى المرحلة البدائية للحضارة.

وفي عصرنا الحالي، الذي تحيط به الأخطار، لا نستطيع التهاون في تجيير السلطة إلى أي كان. كما اننا لا نستطيع التساهل في ترك أقليات صغيرة تتخذ قرارات مهمة قد تكون مرعبة لبقية الأقليات.

«ديموقراطية الأقليات»

لذلك ما نحتاج إليه الآن هو مقاربات جديدة تضع لنا أسس «ديموقراطية الأقليات» وتقوم هذه على إظهار الفوارق، أكثر من الضغط لإنتاج أكثرية مزيفة قائمة على التصويت الإقصائي الناشئ عن أساليب انتخابية سيئة.

إن تحديث النظام الديموقراطي يجب ان يهدف إلى تقوية دور الأقليات المختلفة، بحيث تتاح لها فرصة تكوين النظام الحقيقي: تحول الاقلية أكثرية.

فالنظام الحالي القائم على التصويت الأكثري قد أنتج نخبًا تتحكم بالقرارات (أكثر من (51 في المئة) وتغيير السياسات. وهذا النظام فظ ووسيلة كمية، ولا يفيد في شيء، في اطار تكوين الأكثرية، لجهة نوعية وجهات النظر الشعبية. وهو يفيدنا ان عددًا من الناس اختار عددًا معينًا من المرشحين، ولم يقل لنا كيف اختارهم. كما لا يراعي وضع أقلية تشعر بانها في خطر وتحتاج إلى أكثر من نظام التصويت.

وحتى في الأكثريات الضعيفة ثمة تسامح منشأه عدم وجود استراتيجية لدى الأقليات للتصدي للأكثرية.

اننا في مجتمع «مسيّج»، مؤلف من مجموعة أقليات، لم يعد قابلاً للحسبان. والصيغة الأسلم: اقتراع استفتاء للرأي العام. وهذا ادخلته الثورة التكنولوجية، وثورة المعلومات ووسائل التواصل الاجتماعي التي أظهرت ان اشكال الديموقراطية الحالية لم تعد مناسبة.

وهذا يطرح نظرية «الديموقراطية نصف المباشرة» التي تعني الانتقال من تمثيل الآخرين لنا، إلى تمثيلنا لأنفسنا. وهذا المزج هو المطروح في الديموقراطية الجديدة. ذلك بان انهيار الاجماع (التوافق) يُسقط مبدأ التمثيل. إذ في حال لم يكن هناك اجماع شعبي، فماذا يبقى للنائب أن يمثل؟ وهل يعود إلى الشعب الذي يمثّل؟ في غياب العودة يلجأ النواب إلى الخبراء والمستشارين والموظفين لصوغ القوانين، فينتقل القرار من شخص منتخب إلى شخص غير منتخب. لذلك تجب العودة إلى الناخبين بأي طريقة، حتى لا تبقى القرارات بعيدة عن الحاجات.

«البلدية الالكترونية»

وهنا يأتي دور التصويت الالكتروني، أو المشاركة الكترونيًا في القرارات كإحداث «بلدية الكترونية»! وهكذا يستطيع المواطن أن يضغط زرًا من غرفة نومه ويصوّت على أي قضية تعرضها عليه البلدية. (مثل التصويت على الموازنة، والمشاريع الخ…).

اننا أمام الديموقراطية المباشرة مجدداً عبر الكومبيوتر، والقمر الاصطناعي، والانترنت والتلفون الذكي، والكابل، وأساليب الاستفتاء… الخ.

وللمرة الأولى في التاريخ نجد المواطن المتعلم يتخذ بنفسه قراراته السياسية. مطلوب ابتكار صيغة توفق بين الديموقراطية المباشرة والديموقراطية غير المباشرة.

ومطلوب «دمقرطة» نظام في طريق الانهيار، بسبب فشل حل المشاكل بالايديولوجيا.

ان الديموقراطية نصف المباشرة هي الصيغة التي يمكن أن تجعل مؤسسات المستقبل فاعلة.

ان اشراك المزيد من الأقليات في صنع القرار بات ضروريًا، وذلك عن طريق كسر المركزية والتوجه نحو اللامركزية، و «القرية الديموقراطية»، أو «ديموقراطية القرية». وهذه اللامركزية تشمل الاتصالات والاقتصاد والقرارات الحكومية.

وهذه الديموقراطية هي أقل اعتمادًا على الثقافة، وصراع الطبقات، وشجاعة الميادين، والبلاغة والارادة السياسية، بتركيز من المشاركة حيث لا تكون المعارضة خيارًا بل حاجة تطويرية. وهي تحتاج إلى مؤسسات سياسية جديدة، في موازاة عائلة جديدة، ومؤسسات تعليمية وشركات جديدة، وإلى صناعة وتكنولوجيات جديدة. انه صراع كبير من أجل الغد. فبعض الأجيال ولد للابتكار، والآخر يعمل للمحافظة على الحضارة القائمة.