Site icon IMLebanon

عِبَر تفرض نفسها: تجنّب التحالف مع «السّاعين إلى السلطة» «الطلاق الحُبّي» مع «حزب الله»

كي لا تتكرّر مأساة لبنان (11/12)

 

 

1- العمل الوطني والسعي وراء السلطة على طرفي نقيض في لبنان طالما يعاني من مشكلة وجودية. غير أن البعض يحاجج أن إمساكه بالسلطة هو السبيل لمواجهة الأعداء وخلاص لبنان. ولكن، كما رأينا من خلال سرد أخطاء 14 آذار وخطاياها، هو ما حصل هو العكس، فتحوّلت «قرنة شهوان» إلى «قرنة الشهوات»، وأوصلت سياسة 14 آذار إلى تخطّي القرار 1559 وصولاً إلى «التحالف الرباعي» وما تبعه من تداعيات متناسلة.

كثيرون يعتبرون أن السعي إلى السلطة أمر طبيعي وهو حقُّ لكل مواطن. غير أن هذه المقولة لا تستقيم في بلد مثل لبنان يعاني مشكلة وجود ككيان ودولة وشعب. كي لا أُتّهَم بالمثالية، أقول إن ثمة صعوبة في أن يتخلى المرء طوعياً عن سلطة تلوح في أفقه. وقد مررت بهذه التجربة عندما رفضت أن أكون وزيراً في أول حكومة بعد اتفاق الطائف التي كان يشكّلها الرئيس الراحل عمر كرامي، وسبب رفضي آنذاك أن عدد الوزراء الذين كانوا لا يدينون بالولاء الأعمى لسوريا-الأسد لم يصل فيها إلى الثلث زائد واحد. وقد لامَني عدد من أصدقائي على فعلتي هذه. وإلى يومنا هذا، أعتبر أن قراري كان في محله، ولم أندم على اتخاذه لا في الماضي ولا في الحاضر. ولو تكررت الظروف لكان موقفي هو نفسه.

2- لا مانع من التعاطي التكتي مع أيّ من الأطراف -بإستثناء حزب الله و«شركائه»- في اتخاذ مواقف مشتركة من أحداث محددة، ولكن من دون الدخول معهم بجبهات وتجمعات لها صفة الديمومة، لأن أجندهم هي أجندة سُلطوية في الدرجة الأولى، ويلبسونها أحياناً بحسب حاجتهم صفة «السيادية».

لماذا؟ لأن التجارب معهم لم تكن موفّقة ولأنهم لا يستطيعون تغيير طبيعتهم، ولأن «يلّي بجرّب المجرّب بكون عقله مخرّب»، ولأن في مقدورهم استثمار المواقف وتجييرها لمصلحة طموحاتهم السلطوية، واستتباع الآخرين في غياب تجمع وازن من القوى والشخصيات الصادقة يطرح خريطة طريق لخلاص لبنان واضحة.

3- لأن مساكنة «حزب الله» في البرلمان والحكومة و«طاولات الحوار» لا تنفع إلّا «حزب الله» إذ تضفي عليه صفة الطرف اللبناني، وبالتالي تسمح له باستخدام الدولة اللبنانية لوضعها في خدمة مشروعه الإسلاموي الأممي موحياً للداخل والخارج أنه يحمي لبنان من طموحات العدو الإسرائيلي التوسعية.

صحيح أن أعضاء «حزب الله» لبنانيون، غير أن هذا الحزب هو في واقع الحال منظمة عسكرية-أمنية- سياسية تُشكّل جزءاً لا يتجزأ من الجمهورية الإسلامية في إيران. ومشروع الجمهورية الإسلامية هو أسلمة العالم وفق إجتهاد «ولاية الفقيه» للمذهب الشيعي الإثني عشري.

نقطة إنطلاق المشروع: الشرق الأوسط. طريقة العمل: الجهاد. الوسيلة: حرب شعبية طويلة الأمد ومنخفضة الوتيرة.

«حزب الله» هو المكوّن القاطرة لجيش «الفتح الإسلامي» للجمهورية الإسلامية في إيران: فهو المكوّن الرئيسي لفيلق القدس، الموكّل إليه في إطار «الحرس الثوري» تصدير الثورة، كما المكوّن الرئيسي لـ«محور المقاومة» الذي يتشكل من مكونات الفيلق وقوى أخرى، مثل النظام السوري، الحوثيين، «حماس»، «سرايا المقاومة»… وإضافة إلى ذلك، بات السيد حسن نصر الله هو القائد غير المعلن لهذين الفيلق والمحور بعد مقتل قاسم سليماني.

كذلك علينا إدراك أن طهران، على نقيض كل ما يتمناه البعض، لن تقدّم تنازلاً في ما يتعلق بسلاح «حزب الله» في أي ظرف من الظروف، لأن بقاء النظام الإيراني يصبح بخطر بفقدان علة وجوده، أي تصدير الثورة الإسلامية.

لذا، يقع لبنان تحت الإحتلال الإيراني و«حزب الله» يجّسد هذا الإحتلال ولا يجوز مساكنته، لأنه سوف يوظّف هذه المساكنة لمصلحته غير آبه لآراء المكوّنات اللبنانية الأخرى. هذا ما كنا، الدكتور محمد شطح وأنا، قد توصلنا إليه قبيل اغتياله وعنونّاه «الطلاق الحُبّي مع حزب الله».

4- مُؤسف أنّ من يطلقون على أنفسمهم مُسمّى «السياديين»، وهم بعض رموز 14 آذار ومكوّناتها زائد بضعة تغييريين، ما زالوا يتحركون متوهّمين أن رئاسة الجمهورية قد تشكّل بداية الحل، و«يواجهون» «حزب الله» بشعار التخلص من «الميليشا والمافيا»، وكأن المشكلة تنحصر بالحزب وتصرفاته الميليشياوية، وأيضاً كأن ما زال هناك وجود لدولة كي تنحصر مهمتهم في استعادتها من أيدي خاطفيها، والعودة إلى تطبيق الدستور والحياة الديمقراطية في لبنان.

وهم يحاذرون اعتبار أن لبنان يرزح تحت إحتلال إيراني عبر «حزب الله» وضرورة «الطلاق الحُبّي معه» تالياً، كما أن الفساد بالنسبة إليهم هو مشكلة وجود قيادات فاسدة فحسب وليس له علاقة بطبيعة الإجتماع السياسي اللبناني التي تتطلب حلاً جذرياً قد يكون تحقيقه صعباً ولكن ليس مستحيلاً، كي لا تتكرر مأساة لبنان وأخطاء 14 آذار وخطاياها.

فقد يستشعر المرء كأننا في وسط عام 2004 وأن الحل هو بالعودة إلى إنتاج نيو-14 آذار، تدخلنا في مرحلة مأساوية جديدة إذا نجحت بالتخلص من «حزب الله». لكن هذه الرؤية الماضوية القاصرة لن تجدي نفعاً، ولن يكون هناك حلّ بالتدرّج والمراكمة في إطار مسايرة وضع دولي وإقليمي غير واضح المعالم، ويجتاز مخاضاً غير محدد حتى الساعة. فالمطلوب عدم مواجهة «الدول الصديقة» ولكن أيضاً عدم الخضوع لإملاءاتها.

5- لقد أضاعت قوى 14 آذار فرصة تطبيق القرار 1559 بخصوص حل الميليشيات بدل من الإستفادة من زخم الوضع الدولي في المنطقة. فأدخلت لبنان في نفق استبدال الإحتلال السوري بالإحتلال الإيراني الأخطر. وفي المناسبة، يُعلّمُنا تاريخ لبنان أن بلدنا بحد ذاته ليس موضع اهتمام الدول للتدخّل بقوة للمحافظة على صيغة العيش المشترك الفريدة التي يتميز بها، ولا على ديمقراطيته، ولا على الوجود المسيحي الحر فيه. وحدها دولة الفاتيكان دون سواها تهتم بالمحافظة عليه وعلى سماته هذه. أما باقية الدول، فلن تتحرك لنجدته إلّا إذا رأت في ذلك تحقيقاً لمصالحها. لكن الوضع يختلف إذا شكّل وضعه تهديداً لمصالحها من خلال زعزعة أمنها، أو أمن الإقليم وإستقراره والسلام العالمي، فعند ذلك فقط، تتحرك كما حدث في عام 1982 وعام 2005.

يحتوي لبنان على طاقة كبيرة يمكن أن يشكّل قنبلة موقوتة تهدّد الاستقرار والأمن والسلام في المنطقة، وتعود في الأساس إلى الدور المركزي الذي يؤديه «حزب الله» في «فيلق القدس» و«محور المقاومة» وخطورته على دول المنطقة العربية وغير العربية وتفاعله الديالكتيكي السلبي والإيجابي مع القوى الإسلاموية السنية. ليست في الأفق المنظور إشارة جدّية إلى اهتمام، دولي عموماً وغربي خصوصاً، بمصير الشرق الأوسط. والنقطة الوحيدة التي يمكن أن تشكّل صاعقاً للأوضاع اليوم هي تركيز «حزب الله» جهاديته على «الكيان المؤقت» (يعني إسرائيل) بعد الاتفاق السعودي-الإيراني الذي حَّتَمَ على إيران تجميد مؤقتة لإستهدافاتها «الجهادية» في المنطقة العربية، باعتبار أن لحظة تدميره قد دَنَت.

لذا، يتوجب على القوى اللبنانية الصادقة أن تكون حاضرة لطرح الحلول الجذرية التي تخرج لبنان من دوامة الحروب المتناسلة، وتعالج في العمق مشكلته الأساسية الكامنة في طبيعة الإجتماع السياسي اللبناني، كي لا تتكرر مأساته.

كيف؟ هذا ما سوف نتطرق إليه في المقال القادم والأخير.