تم تعيين حاكم جديد لمصرف لبنان، وهذا منتظر منذ زمن بعيد ويعتبر في غاية الأهمية. عدم تعيين نواب للحاكم وأعضاء للجنة الرقابة على المصارف مضر، لكنه يسمح في نفس الوقت للحاكم الجديد باظهار المامه التقني والنظري تجاه الرأي العام بالسياسة النقدية وبالمؤسسة التي يرأس. عليه القيام بالمخاطبة الدورية الاعلامية العلنية وليس كما كان يحصل سابقا وخلال عقود أي اعتماد الضبابية غير البناءة التي أضرت بالمودع والمصارف والمؤسسات. يمر لبنان طبعا في فترة انتقالية مهمة يجب خلالها على الجميع التعاون مع الحكومة لانقاذ الاقتصاد وخاصة النظام المصرفي. يجب اقرار القوانين التي نتكلم عنها كل يوم وصولا الى اعادة الودائع كاملة الى أصحابها. باختصار ما يطالب به الرأي العام هو الكثير من العمل والقليل من الكلام.
تعتبر السياسة النقدية واحدة من أهم السياستين الاقتصاديتين المعتمدتين. هي من مسؤولية المصرف المركزي المستقل مبدئيا، بينما تهتم الحكومة أو وزارة المالية تحديدا بالسياسة المالية. أول مصرف مركزي في العالم كان في السويد في سنة 1668. وصل عدد المصارف المركزية الى 23 في سنة 1920 والى أكثر من 160 اليوم. دراسات وكتابات «ميلتون فريدمان» أعطت للسياسة النقدية وهجا وأهمية لم يكونا موجودين قبلا. وضع فريدمان الضؤ على تأثير السياسة النقدية على التضخم وطلب من المصارف المركزية التنبه الى حجم الكتلة النقدية ونموها. التحدي الدولي الأكبر حاليا هو تعيين حاكم مصرف مركزي أميركي جديد بعد انتهاء عهد «جاي باول» في منتصف 2026. والأسم المطروح من قبل الرئيس ترامب هو وزير المال الحالي «سكوت بيسينت» مما يخالف مواصفات الحكام السابقين الذين أمنوا للولايات المتحدة استقرارا ماليا منقطع النظير.
تحديد الفائدة الرئيسية هو أهم عمل تقوم به المصارف المركزية الغربية والذي يهدف الى تخفيف الاقتراض أو زيادته تبعا لحاجة الاقتصاد وليس لرغبات السياسيين. هدف السياسة النقدية الأول هو تجنب التضخم أو مكافحته خاصة اذا وجد لأسباب لا علاقة للنقد بها، كارتفاع أسعار المواد الأولية أو زيادة الطلب على سلع وخدمات معينة. تغيرت طبيعة الأزمات كما يظهر من المقارنة بين أزمتي 1929 و 2007. في الأولى، بدأت الأزمة في البورصة وانتقلت الى المصارف وثم الى القطاع العقاري. في 2007، بدأت الأزمة من القطاع العقاري وأنتقلت الى المصارف وثم الى البورصات والأسواق المالية. تغيرت الأزمات نتيجة تغير خصائص الأسواق الحقيقية والمالية وتوقعات المستثمرين وسرعة توافر المعلومات والاحصائيات. بفضل السياسة النقدية المعتمدة أميركيا تحقق النمو الايجابي المعتدل بعد ان كان سلبيا في 2008. تحقق ذلك مع تضخم منخفض لا يتعدى 2,5% وهذا يعتبر نجاحا اقتصاديا كبيرا. لا يمكن أن ننكر فضل السياسة المالية أيضا في النجاح، أي انفاق استثماري سخي نشط الاقتصاد الأميركي تماما كما أوصى الاقتصادي البريطاني «كينز» به منذ عقود. قال «كينز» أن التقشف في زمن الركود سيء اذ يعمقه بدلا من أن يوقفه، وهذا ما فهمته أوروبا.
قالت حاكمة المصرف المركزي الأميركي السابقة «جانيت يللين» أن المخاطر الاقتصادية لم تعد داخلية فقط بل أصبحت عالمية أي أصعب في التقييم والتنبؤ. فالمخاطر التي تؤثر في رأيها على كيفية تحريك الفوائد هي التطورات الصينية اذ ان الصين محرك أساسي للاقتصاد الدولي ويتعثر نموها اليوم لأسباب داخلية وعالمية. كما أن تقلب أسعار المواد الأولية خاصة أسعار النفط والغذاء مهم جدا. قالت يللين أنها غير متأكدة من أن التصرفات أو التوقعات التضخمية قد خفت، بل يمكن أن تكون مختبئة وربما تظهر فجأة بقوة وسرعة وبالتالي يجب التمهل في تخفيض الفوائد على عكس ما يريده الرئيس ترامب الذي يدفع نحو تخفيض كبير وسريع لها.
في منطقة اليورو، استطاع المصرف المركزي بفضل جهود الحاكم السابق «ماريو دراغي» والحالية «كريستين لاغارد» أن يعيد النمو الى المجموعة. تكمن المشكلة في عدم وجود سياسة مالية مشتركة أو واحدة بين الدول كما هو الحال في الولايات المتحدة. كل دولة لها سياستها المالية المستقلة، وهذا يشكل عائقا أمام نجاح سياسات الانقاذ التي تحتاج اليها أوروبا. وضع أوروبا اليوم أفضل من 2008 لكنها لم تتعاف كليا بعد خاصة بسبب انعكاس نتائج الحرب الروسية الأوكرانية على اقتصاداتها. لم تختلف السياسات النقدية اليابانية أيضا عن ما سبق. اقتصاد كبير متطور كالياباني، لكنه لا ينمو كما يجب مما دفع بالحكومات الى اعتماد سياسات مالية وهيكلية ونقدية سخية. ما يميز اليابان سلبا عن الولايات المتحدة وأوروبا، انها لم تستطع تحقيق النمو الكافي لأسباب هيكلية طويلة الأمد تدخل المواضيع السكانية والديموغرافية من ضمنها.
أما السياسة النقدية اللبنانية فارتكزت منذ بداية التسعينات على سياسة سعر الصرف الثابت لليرة تجاه الدولار، مما يعني أننا اعتمدنا السياسة النقدية للولايات المتحدة أي فوائدها. ساهم مصرف لبنان لفترة طويلة في تأمين الاستقرار المصرفي، الا أن الاقراض المتهور تجاه القطاع العام كما تجاه بعض القطاع الخاص ساهم في زعزعة الميزانيات المصرفية وصولا الى الحالة التي نحن فيها. ما زلنا معتمدين لنفس سياسة سعر الصرف، وهذا ضروري بانتظار تكوين احتياطي نقدي يسمح للمصرف المركزي بالدفاع عن سعر الصرف الحر. المطلوب موضوعان أولا الخروج من سعر الصرف الثابت تجاه الدولار خاصة مع السياسات النقدية الأميركية الجديدة والتي من الأرجح أن لا تناسبنا مع الوقت، وثانيا تشكيل لجنة رقابة مصرفية جدية تساهم في اعادة ثقة المواطن بالمصارف. لا اقتصاد حي من دون مصارف، كما المطلوب قطاع مصرفي فاعل يستقبل الودائع ويعطي القروض علما أن الثقة لن تعود تدريجيا الا اذا أحسنت الحكومة والمجلس النيابي اقرار الاصلاحات المتنوعة وتنفيذها.
