Site icon IMLebanon

الجبلُ … وحروبُ الإلغاء

 

ماذا يجري في الجبل…؟

 

ما هي قصَّةُ هذا الجبل في صراعه مع التاريخ…؟

 

هذا الذي قال عنه النبيّ: «إنّـه أحدُ جبال الجنّة» (1)… ينقسمُ الى قِمَـمٍ متناطحةٍ على لَهَـبٍ جهنَّمي.

 

نعم… إسمحوا لنا من فضلكم أن نستـنْجد بالتاريخ فهو المعلّم الأكبر، نستذْكِرُ أحداثَـهُ الـمُفْجِعة للإعتبار مخـافةَ الوقوع في التكرار.. لأن الذين يتنكَّرون للماضي يخرجون من المستقبل.

 

للجبل مع التاريخ حكاياتٌ موصولةٌ بالأحداث العاصفة، إنْ تهيَّـبْنا الغوصَ في عمقها الأبعد، فلا بـد من التوقّف حيال الأحداث الجاثمـة على مرمى أنظارنا، فإذا جبل لبنان الجنوبي يخوض حرباً مع الغريب لإلغاء الآخر القريب، وينتهي بحربٍ باردةٍ مع الذات.

 

وجبل لبنان الشمالي يخوض حرباً على الآخر الغريب، وحرباً على الآخر القريب وتنتهي بـهِ الحرب صراعاً مع الذات حامياً وبارداً.

 

والصراع مع الذات يعني التعرّي من إطارها الواقي، فَمن ينزع ثيابـه يبـرد، والذي يبـرد يلجأ الى النار.

 

الثنائية الشيعية خاضت هذه التجربة عند انطلاقتها، إلا أنها انتصرت على الأهواء الذاتية بفضل صرخة الذات التاريخية المخضّبة بدم الجور العنيف.

 

ولم تشكّل في المقابل صرخة الدم العنيف: الدرزية – المسيحية والضاربة في أعماق التاريخ، عِبْـرَةً زاجرة ودعوةً الى اليقظة.

 

الثنائية الشيعية أثْـنَتْها عن الصراع الذاتي مآثـرُ الأئمة وشهادةُ الحسين.

 

والثنائية الدرزية – المسيحية لم تُـثْنها شهادة الأمير فخر الدين مع حسين إبن يوسف سيفا، الذي قـدّم لـهُ باسم أبيـه هديةَ جيادٍ عربية بعد عودته من «صقلية»: فرفضها الأمير قائلاً: «نحن لا نحتاج الى الجياد بل الى المواد لإعادة بناء البيوت التي هدمها والدك في دير القمر».

 

ولم تقْتـدِ هذه الثنائية بالأمير بشير الثاني الذي كان مسيحياً بالمعمودية، مسلماً بزواجه، درزياً لدى أعوانه. (2)

 

المشكلة في الجبل بما حملته من إرثٍ تاريخي واجتياح عارم وتهجير، تحتاج الى أكثر من مصالحات كهنوتية تـتِمُّ بمبادرة من البطريرك مار نصرالله بطرس صفير، أو بقداس لاهوتي في دير القمر، الى التوغُّل في العمق الوجداني والبنيان الإنساني المشترك دونما الإكتفاء بغسل اليدين على طريقة بيلاطس..

 

أي إنها تحتاج، إلى ثقافة روحية وجدانيةٍ مشتركة على نحو رغبة الإنخراط المسيحي في المفاهيم الإنسانية والعقلية عند الأجاويد الدروز، كمثل ما عبَّـر يوماً الطالب كمال جنبلاط عن رغبة الإنخراط في الرهبنة وهو في مدرسة عينطورة. (3)

 

والمشكلة في الجبل لا تقتصر على الجبل، بل هي الموروث الثقافي العام الذي خلّفته مدارس الميليشيات في حرب 1975 والتي خلَقتْ طبقةً معسكرةً جعلَتْ من المقاتلين قتَـلَةً ومن السياسيين حربيِّـين، ومن الحربيِّـين حاكمين.

 

والحربيُّون، إنْ توقفت الحرب على أيديهم، تستمرُّ متأججةً في نفوسهم، حتى وإنْ كانوا مسالمين فقد يذكِّرون دائماً بالحرب، وهو ما يُعرف في علم النفس بآليةِ استحضار الأحوال النفسية، كمثلِ ما تُذكِّـرُ رُؤْيـةُ الغيومِ بالمطرِ ورؤيـةُ الدخانِ بالنار.

 

والحربيُّون هم الذين جعلوا من الدولة المركزية الجامعة مجموعةَ دويلاتٍ متنازعة، في كلِّ منطقةٍ دولةٌ، ولكلِّ دولةٍ مذهبها الخاص وحدودها الخاصة ونظامها الخاص.

 

في دولةٍ محلولة لا مجالَ للخلاص، بل ستظل هذه المسرحية التاريخية تفاجئُنا بالفواجع ما دامت المعالجة تقتصر على تغيير المشاهد لا على تغيير الأبطال.

1– مجمع الزوائد ومنبع الفوائد 4/17 مؤسسة العرفان بيروت 1986.

2– فيليب حتي: تاريخ لبنان.

3– من كتاب: «كمال جنبلاط وحقيقة الوجود» – رياض الريّس ص. 45