Site icon IMLebanon

فضيحة الانتخابات البلدية الأخيرة

 

 

قرَّرت التقاعد اخيراً من عملي كرئيس لبلدية كفرقاهل في قضاء الكورة بعد 28 سنة متواصلة في خدمة القرية وأهلها. بنفس الحزم والشفافية والانضباط الذي مارست فيه وظيفتي العسكرية يوم كنت قائداً للكلية الحربية في الجيش.

استعدت في عملي كرئيس للمجلس البلدي الاول من ثقافتي الجامعية في احدى الجامعات الاميركية، حيث اني قد وضعت اطروحة لنيل ماجستير في الادارة العامة حول دراسة وتحسين الخدمات التي تقدمها سلطات الحكم المحلي في مقاطعة من ولاية بنسلفانيا، وذلك بالرغم من الفوارق الكبرى بين وظيفة ومسؤوليات السلطة البلدية في لبنان وذلك المعتمد في الولاية المذكورة.

 

وكان هاجسي فقط البداية يركز على إنماء قريتي، وحمايتها من المد العمراني الشعوائي الذي غزا وخرّب البيئة الطبيعية والاجتماعية لمعظم القرى الموجودة في شمال القضاء، وقد نجحت في هذه المهمة سواءٌ من خلال نظام التصنيف العقاري او من خلال ضبط رخص البناء التي كنت اوقعها، فحافظت بذلك على الطابع القروي، وحميت البيئة الاجتماعية من  حالة النمو العشوائي في القرى المجاورة. لن اتحدث عن المشاريع الانمائية العديدة التي نفذناها خلال الدورات الاربع، واهمها مجارير الصرف الصحي، وشبكة مياه تغذية القرية على مدار ايام السنة، واقامة ملاعب لكرة السلة وكرة القدم بمواصفات عالمية. وكان المشروع النوعي تأمين الظروف والمساعدة في نقل مدرسة الليسيه الفرنسية ارنست لامارتين الى كفرقاهل.

 

من المهم ان اذكر ان مجالس البلدية التي ترأستها كانت تمثل ثقة الناس وخيارهم الحر في الاقتراع. بالرغم من عمليات شراء الاصوات التي رافقت ثلاث معارك انتخابية قاسية.

تابعت باهتمام بالغ الجولات الانتخابية التي جرت مؤخراً وسمعت اصوات المديح والاطراء حول عملية سير الانتخابية ومع اعتبارها انجازاً ديمقراطياً، يصب في حساب وزير الداخلية والحكومة والعهد، وهو دون شك انجاز مشكور اذا ما جرت مقارنته بقرارات تأجيل الانتخابات لثلاث سنوات، والتي كانت تدل على عجز السلطة، وفسادها وتهاونها في احترام الاستحقاقات الوطنية والقانونية، بالاضافة الى عجزها في ممارسة مسؤولياتها الدستورية.

كم كنت اتمنى ان يكون وزير الداخلية شفافاً وصريحاً في حديثه عن العمليات الانتخابية، والتي كانت بعيدة كل البُعد عن الممارسة الديمقراطية في خيارات الناس في عمليات الاقتراع.

لقد شاب العمليات الانتخابية شوائب عديدة، وكان أسوأها تعميم الرشوة بكل اشكالها وشراء الاصوات شكل القاعدة، في تأمين النجاح لمعظم الاعضاء او اللوائح التي اعلن عن فوزها. وهنا لا بد ان أؤكد للمسؤولين والمشرفين على الانتخابات بأنني لم اشاهد خلال اربع دورات انتخابية خضت غمارها بكثافة عمليات الرشوة وشراء الاصوات التي شاهدتها في الانتخابات الاخيرة.

جرت معظم عمليات شراء الاصوات بصورة مباشرة وعلنية، حيث ظهر عدد من الممولين الجاهزين لتحمل الانفاق الانتخابي الكثيف، الرشوة على الناخبين بل توسعت لتشمل تأليف اللوائح الانتخابية حيث دفع لاشخاص آلاف الدولارات للانضمام لهذه اللائحة او تلك.

اما عن عمليات شراء الاصوات فحدّث ولا حرج، وهنا لا بد ان اذكر بعض الامثلة التي اطّلعت عليها،  حتى لا اتهم بسوق الاتهامات، غير المستندة الى وقائع حدثت بالفعل، واسرد بعض الامثلة منها شراء عائلة من 16 صوتاً بمبلغ اربعين الف دولار، بالاضافة لتجهيز شقة كاملة لأحد ابنائهم الذي سيتزوج قريباً. وهناك عائلة من اربعة اصوات جرى رشوتها بشراء اربع حواسيب متطورة لتأمين اقتراعها ضد اللائحة المنافسة والتي كان عضواً فيها شقيق رب العائلة المذكورة.

وتمادى المموِّلون لبعض اللوائح في عمليات شراء الاصوات حيث اشتروا بعض الاصوات في قرى زغرتا بسبعة آلاف دولار للصوت الواحد. كانت عمليات الشراء تجري بصورة شبه علنية، واكثرها في زيارات ليلية للعائلات.

في الواقع شكلت الانتخابات البلدية عاملاً لتفكيك النسيج العائلي او الاجتماعي في معظم القرى، حيث شهدت بعض القرى تنافساً بين الاشقاء الذين انضموا للوائح متنافسة، مع الاضافة بأنها قد تسببت بتعميم مشاعر العداء والضغينة بين الافراد وبين العائلات او ضمن العائلة الواحدة.

لا تقتصر شوائب الانتخابات الاخيرة على تعميم الرشوة وعمليات شراء الاصوات بل تعدت ذلك الى محاولات للتلاعب بالنتائج، وأن اكبر المحاولات قد جرت تحديداً في مدينة طرابلس، والتي تركت علامات استفهام كبرى على نزاهة الانتخابات والتي انتهت بوضع المحافظ بالتصرف. وفي هذا السياق لا يمكن اغفال تدخل الاحزاب والسياسيين في العملية الانتخابية والتي ادت الى فوز عدد كبير بالتزكية، والتي لم تكن نتيجة توافق الناخبين بل بهدف خدمة مصالح هذه الاحزاب او الطوائف او السياسيين وليس العمل على انماء البلدات او القرى.

ان المجالس البلدية التي جرى انتخابها لن تكون قادرة على القيام بعمليات انمائية في المجتمعات التي اختارتها، وذلك لسببين اساسيين:

الاول: يعود لضعف موارد الرسوم البلدية، وفشل الصندوق البلدي المستقل في تأمين الدعم المالي اللازم لموازنات البلديات.

الثاني: يعود لقانون البلديات، وخصوصاً لجهة اعتماد بلدية مستقلة لكل قرية او البلدة دون النظر لموارد الموازنة الخاصة بها. فالبلديات بسبب ضعف موازناتها تبقى غير قادرة على التخلص بصورة قانونية من النفايات المنزلية، ويؤدي ذلك الى تعميم المكبات العشوائية، ومن ابشع مظاهر ذلك ما يحدث على الطريق التي تربط بين ضهر العين ومدينة طرابلس، ونجد ان هذا المظهر معمم في امكنة اخرى وفي المدن الكبيرة.

في رأينا تبرز هنا اهمية اعادة النظر بصورة كلية بقانون الانتخاب الحالي، وتنظيم البلديات استناداً لمواردها التي تغذي ميزانياتها، وقد يكمن الحل استناداً وقياساً على تجربتي الثقافية في ضم عدة قرى وبلدات لتشكل كياناً بلدياً موحداً، وستؤدي هذه الحلول الى الغاء اتحادات البلديات بعد فشلها في ظل القانون الحالي.

ولا بد ان يتعرض القانون الجديد الى تحديد المستوى الثقافي للمرشحين، وخصوصاً للمرشحين لمركز رئيس بلدية، وان يحدد شرط حصوله على الشهادة الثانوية على الاقل، واؤكد بناءً لمعلوماتي ان المستوى الثقافي في العديد من البلديات كان متدنياً جداً، ولدرجة ان المستوى الثقافي لبعض الطامحين بالرئاسة لا يتعدى مستوى الصف الثالث ابتدائي.

ولا بد ان ننسى ما حصل من ترتيبات في العاصمة بيروت من اجل الحفاظ على حقوق الناخبين السنة، ويعد مخالفة مفضوحة للممارسة الديمقراطية ويتطلب هذا الامر اعتماد تشريع يؤمن العدالة للجميع دون انتهاك الممارسة الديمقراطية الفعلية.

في النهاية تشكل كل الانتهاكات التي حصلت في الانتخابات الاخيرة فضيحة كبرى، حيث انها عممت آفة الفساد وجعلته شاملاً وكلياً، وأن فداحة العيوب التي ارتكبت تدعونا للتساؤل عن اسباب غياب الاجهزة الامنية كلياً عن المسرح الانتخابي.