في الذكرى السنوية لتغييب الإمام موسى الصدر، تحوّل خطاب رئيس مجلس النواب اللبناني نبيه بري إلى أكثر من مجرد مناسبة تأبينية. بدا الخطاب وكأنه وثيقة سياسية استراتيجية متكاملة، تعكس رؤية للمرحلة المقبلة في لبنان، في ظل أزمات داخلية متشابكة وضغوط إقليمية ودولية متعددة، تتداخل فيها الانقسامات الداخلية مع الانهيار الاقتصادي والشلل السياسي الطويل.
من اللحظة الأولى، استحضر بري الإمام الصدر كمرجع روحي وسياسي، مؤكدًا أن مقولته الشهيرة «لبنان وطن نهائي لجميع أبنائه» ليست مجرد شعار عابر، بل مشروع وطني جامع. عبر هذا الاستحضار، حاول بري الربط بين أفكار الصدر والحلول الممكنة للأزمات اللبنانية الراهنة، مؤكدًا أن مشروع الدولة الجامعة يظل صالحًا للخروج من الأزمة، وأن الحلول لا تكمن في مشاريع الانقسام والفدرلة، بل في تعزيز الوحدة والهوية الوطنية المشتركة.
•الإمام الصدر حاضر في الغياب
استهل بري كلمته بالتأكيد على أن غياب الإمام الصدر الجسدي لم يمنع حضوره الفكري والسياسي في وجدان اللبنانيين. وقال إن مشروع الصدر للدولة الجامعة لا يزال يمثل مرجعًا للخروج من الأزمات، وأن الدولة اللبنانية يجب أن تبقى مساحة لكل المواطنين، دون تمييز أو إقصاء. هذا الطرح لم يكن مجرد تكريم لشخصية تاريخية، بل بمثابة استدعاء لمشروع سياسي واضح، يقوم على الحوار والمشاركة الوطنية، ورفض أي توجه نحو الانقسام أو الفدرلة.
بهذا المعنى، يمثل خطاب بري استدعاءً للخط السياسي الذي تبناه الصدر، ويضعه في صلب النقاشات اللبنانية الراهنة، بما يشمل إعادة النظر في موقع السلاح في الدولة، والحاجة إلى حوار شامل لإعادة بناء الثقة بين القوى السياسية والمجتمعية.
•السلاح بين الردع الوطني والخلاف الداخلي
القضية الأكثر حساسية التي تناولها بري كانت ملف السلاح، وهو أحد أكثر الملفات تعقيدًا في الداخل اللبناني. لم يذهب بري نحو خيار «التسليم أو التجريد»، بل قدم طرحًا ثالثًا، يربط بين حق المقاومة في مواجهة الاحتلال الإسرائيلي وضرورة ضبط السلاح ضمن إيقاع الدولة والسيادة الوطنية.
وقال بري إن المقاومة لم تكن يومًا مشروعًا فئويًا، ولم تُستخدم أبدًا في الداخل اللبناني، بل كانت سلاحًا في مواجهة الاحتلال، وسندًا للبنان في أصعب الظروف. وأضاف: «المطلوب أن يبقى السلاح في خدمة لبنان، لا أن يتحول إلى عبء داخلي أو أداة خلاف بين اللبنانيين».
بهذا الطرح، قدم بري جدولة سياسية وأمنية لمسار التعامل مع السلاح، تحفظ دوره في الردع وتفتح في الوقت نفسه باب النقاش الوطني المسؤول حول موقعه في المعادلة اللبنانية. هو بذلك يجمع بين الحفاظ على معادلة الردع والاستقرار الأمني، وبين التخفيف من حدة الخلاف الداخلي حول هذه القضية الحساسة.
•الحوار الوطني شرط البقاء
في الداخل اللبناني، شكّلت دعوة بري إلى الحوار واحدة من الرسائل الأكثر وضوحًا في الخطاب. فقال: «لا خلاص للبنان إلا بالحوار، ولا إمكانية لبناء دولة قوية إلا بتفاهم اللبنانيين فيما بينهم».
في ظل الانهيار الاقتصادي غير المسبوق، والانسداد السياسي الطويل في مواقع الرئاسة والحكومة، وغياب التشريع الفعّال، يصبح الحوار ليس خيارًا، بل ضرورة لإنقاذ الدولة ومنع تفككها. بري هنا يضع القوى السياسية أمام مسؤوليتها التاريخية، ويؤكد أن أي تعثر أو انقسام سيؤدي إلى زيادة الأزمة، ويضعف القدرة على مواجهة التحديات الاجتماعية والاقتصادية المستمرة.
•الردع والسيادة في آن واحد
لم يقتصر خطاب بري على الداخل اللبناني، بل حمل رسائل واضحة للخارج، خاصة إسرائيل والولايات المتحدة.
في اتجاه إسرائيل، أكد أن المقاومة ليست خيارًا عابرًا، بل عنصر ثابت في معادلة الردع اللبنانية: «الرهان على تفكيك الداخل اللبناني أو إضعاف المقاومة رهان خاسر، ولبنان لن يكون ضعيفًا في مواجهة أي عدوان».
في اتجاه الولايات المتحدة والقوى الغربية، شدد على أن لبنان دولة مستقلة ترفض الوصاية والإملاء: «نريد أفضل العلاقات مع الجميع، لكن على قاعدة الاحترام المتبادل».
بهذه التوازنات، جمع بري بين تثبيت معادلة الردع أمام إسرائيل ورفض أي تدخل خارجي، وبين فتح المجال أمام علاقات دولية متوازنة تقوم على الاحترام والسيادة، ما يعكس استراتيجية لبنانية متماسكة في المدى المتوسط.
•الدلالات الاستراتيجية للخطاب
يمكن قراءة خطاب بري على ثلاثة مستويات مترابطة:
1. المستوى الداخلي: تقديم السلاح كقضية وطنية جامعة لتخفيف الانقسامات، وتحويله من أداة خلاف إلى عنصر حماية للدولة والمواطنين.
2. المستوى السياسي: إعادة تثبيت الحوار كآلية وحيدة لإنقاذ الدولة ومنع الانهيار والفوضى، وتعزيز الوحدة الوطنية.
3. المستوى الاستراتيجي: الحفاظ على معادلة الردع تجاه إسرائيل ورفض الوصاية الأميركية، مع إبقاء الباب مفتوحًا أمام التعاون الدولي المتكافئ.
هذه القراءة تعكس أن خطاب بري تجاوز الطابع الرمزي للمناسبة ليصبح وثيقة سياسية قابلة للاعتماد كمرجع في المرحلة المقبلة، تحاكي التوازنات الداخلية وتثبت الموقف اللبناني في الإقليم والعالم.
•خريطة طريق لبنانية
يمكن تلخيص الرؤية التي قدمها بري على شكل خريطة طريق لمستقبل لبنان:
-سلاح مضبوط بإيقاع الدولة: يبقى الردع الوطني قائمًا، مع ضبط إيقاع استخدام السلاح داخل الدولة وفق مصالحها.
-حوار يفتح باب الوحدة: تشجيع القوى السياسية على التفاهم وتجاوز الخلافات من أجل إنقاذ الدولة واستعادة الاستقرار.
-رسائل متوازنة للخارج: تثبيت السيادة الوطنية والردع، مع إبقاء الباب مفتوحًا للعلاقات الدولية المبنية على الاحترام المتبادل.
بهذا، يظهر أن بري لا يقدّم خطابًا تأبينيًا عابرًا، بل خطة عملية لتثبيت قواعد المرحلة المقبلة، مستحضرًا مشروع الدولة الجامعة الذي حمله الإمام موسى الصدر: وطن لجميع أبنائه، مقاومة في خدمة الدولة، وحوار يبني مستقبلًا يليق بلبنان.
•رؤية شاملة للبنان المتماسك
في النهاية، يمكن القول إن خطاب نبيه بري في ذكرى تغييب الإمام موسى الصدر تجاوز الطابع الرمزي ليصبح وثيقة استراتيجية شاملة. فهو يقدم رؤية متماسكة لبناء لبنان متماسك، يحمي حقوق مواطنيه، ويصون سيادته، ويستمر في لعب دوره الفاعل على الصعيدين الإقليمي والدولي.
إنها محاولة لإحياء مقولة الإمام الصدر: «لبنان وطن نهائي لجميع أبنائه، مقاومة في خدمة الدولة، وحوار يكتب مستقبلًا يليق بلبنان». بهذا المعنى، يمكن اعتبار خطاب بري خريطة طريق قابلة للتطبيق، تجمع بين ضبط السلاح، وتعزيز الحوار، وتثبيت السيادة، مع إبقاء لبنان في موقع قوة في مواجهة التحديات الداخلية والخارجية.
