عندما أوعزَ السيّد حسن نصرالله إلى المحازبين بعدم إطلاق النار ابتهاجاً بإطلالته، غاب الرصاص والقذائف الصاروخية وطارَت البالونات. وهذا يعني أنّ كلّ الرصاص والقذائف، لسنوات، كان مسموحاً بها أو مطلوبةً أو مغضوضاً عنها الطرف… مع سائر مستتبعاتها وأكلافها!
الساحة الشيعية مضبوطة جدّاً. وفي كلّ يوم، يقدّم «حزب الله» إثباتات على ذلك. والمناصرون الذين يلتزمون تماماً عدم إطلاق الرصاص، هم أنفسهم يلتزمون إطلاقه عندما تأتيهم التعليمات، وهم يشكّلون الموجَ الجماهيري عند الحاجة، في الساحات وفي صناديق الاقتراع.
وإذا كانت جماهير «الحزب» قد ارتبكَت قليلاً في العام 2005، فإنّها استعادت تماسكها على مدى 10 سنوات. أمّا الكلام على انعكاسات سلبية لتراجع التمويل الإيراني لـ»الحزب» فيبدو مبالغاً فيه.
لكنّ جماهير «14 آذار» تحتاج إلى جرعة معنوية. ولو كان الرئيس سعد الحريري حاضراً في السنوات الأخيرة، لقطعَ الطريق على الكثير من الإلتباسات التي تعرّضَت لها الساحة السنّية والتفسيرات التي أعطِيَت لنموّ بعض الحركات، من الشيخ أحمد الأسير إلى «داعش» و»النصرة».
ولأنّ «حزب الله» اكتشفَ مدى الضرَر الذي أصابه نتيجة تغييب الاعتدال السنّي، والدور الإيجابي الذي يمكن أن يضطلع به «المستقبل» في هذا المجال، فهو يرى اليوم أنّ مصلحته تكمن في تعويم دور هذا التيار في صلب البيئة السنّية، بدءاً من الحكومة وصولاً إلى الحوار.
ولذلك، وخلافاً لنظرة البعض، كان خطاب الحريري مفهوماً جدّاً من جانب «حزب الله»، من مختلف جوانبه بما فيها الملاحظات والانتقادات العنيفة التي وجّهَها الحريري إلى «الحزب» على خلفية التدخّل في سوريا. فـ»حزب الله» يُدرك ضرورات استجماع البيئة السنّية مجدّداً وشدِّ العصَب تحت العناوين الأساسية، بعد غياب طالَ أربع سنوات.
والشِعار الذي رفعَه الحريري في خطابه: «مكمّلين، سنة، 10، 100 أو 1000 سنة» يشكِّل ردّاً مباشراً على مقولة نصرالله «لن نسلِّم المتّهمين الأربعة (صاروا خمسة) ولو بعد 30 يوماً أو 30 عاماً أو 300 عام»! وهذه المعادلة تمثّل إعادةً للتوازن، على الأقلّ في الشكل، بالنسبة إلى قواعد «المستقبل».
ولم يعُد يزعج «حزب الله» كثيراً أن يرفعَ «المستقبل» صوتَه، حول السلاح ورفض التورُّط في سوريا والتمسك بالمحكمة الدولية والاستحقاقات ودور المؤسسات الشرعية. فمعلومٌ أنّ هذه الثوابت يتبنّاها التيار ولا يتراجع عنها، فما المشكلة إذا عبَّر عنها الحريري أمام قواعده، ما دام في الجانب الآخر يفتح حواراً هادئاً مع «الحزب»، يتجاوز فيه كلّ النقاط الحسّاسة؟
بل إنّ «الحزب»، الخبير في التعاطي مع القواعد الشعبية، يتفهّم حاجة «المستقبل» إلى تطمين جماهيره، ما دامت مواقفه مضبوطةً بسقف التهدئة واستمرار الحوار، علماً أنّ «الحزب» نفسه يتبنّى هذا النهج أيضاً، أي: رفع السقف السياسي- الإعلامي، ولكن من دون تعريض الحوار للخطر.
وفي أيّ حال، قطفَ «حزب الله» من خطاب الحريري مواقفَ ترَيّحه كثيراً في مواجهة التطرُّف.
فـ«المستقبل» كرَّسَ نفسَه رأسَ حربة في هذه المواجهة داخل الطائفة. وهذا تماماً ما يريده «الحزب» في هذه المرحلة. ويتّفق الطرفان على مناهضة التطرُّف والإرهاب، لكنّ الخلاف هو أنّ «حزب الله» يرفض الاعتراف بأنّ تورُّطه في سوريا هو الذي جرَّ الدبَّ الإرهابي إلى لبنان.
لقد أطلقَ الحريري مواقفَه الناريّة على المنبر، لكنّه أبقى المكانَ هادئاً على طاولة الحوار. وذهبَ نصرالله في الردّ على الحريري إلى حدِّ مطالبتِه – من دون أن يسمّيه- بالمشاركة في قتال الإرهابيين خارج الحدود اللبنانية.
وللمرّة الأولى، أشارَ نصرالله إلى حضور «متواضع» لـ«حزب الله» في العراق. لكنّ خطابَ نصرالله كان مضبوطاً أيضاً بسقف استمرار الحوار. وعادةً، لا يضبط «الحزب» خطواته على إيقاع ردّات الفعل، بل بالعقل البارد.
وهكذا، كانت الرسائل المضمَرة هي المفهومة بين نصرالله والحريري، فيما الرسائل المكشوفة متروكة، اضطرارياً، لطمأنةِ الجماهير. ويعني ذلك أنّ الرجُلين متّفقان على استمرار الهدنة. أمّا الاتفاق على صناعة التسويات فهو مسألة أخرى ولها مستلزماتها.