Site icon IMLebanon

حوار هادئ عن جدوى الحوار الوطني

 

«الهَمُّ يَختَرِمُ الجَسيمَ نَحافَةً وَيُشيبُ ناصِيَةَ الصَبِيِّ وَيُهرِمُ ذو العَقلِ يَشقى في النَعيمِ بِعَقلِهِ وَأَخو الجَهالَةِ في الشَقاوَةِ يَنعَمُ لا يَخدَعَنَّكَ مِن عَدُوٍّ دَمعُهُ وَاِرحَم شَبابَكَ مِن عَدُوٍّ تَرحَمُ مِنَ البَليَّةِ عَذلُ مَن لا يَرعَوي عَن غَيِّهِ وَخِطابُ مَن لا يَفهَمُ وَإِذا أَشارَ مُحَدِّثاً فَكَأَنَّهُ قِردٌ يُقَهقِهُ أَو عَجوزٌ تَلطِمُ وَتَراهُ أَصغَرَ ما تَراهُ ناطِقًا وَيَكونُ أَكذَبَ ما يَكونُ وَيُقسِمُ وَمِنَ العَداوَةِ ما يَنالُكَ نَفعُهُ وَمِنَ الصَداقَةِ ما يَضُرُّ وَيُؤلِمُ» (المتنبي)

«لهوى النفوس سريرة لا تُعلم»، قصيدة ولا أروع اخترت منها بعض الأبيات لكنها كلها نتاج عبقري الشعر الذي لا يضاهيه أحد في علم النفس وعلم الاجتماع، وما ضرّه من حاله إلاّ جنون العظمة الذي ابتلي به، ولكنه، على كل حال، المتنبي. الإشكال هو أن معظم مجانين العظمة ليس لديهم أي شيء من ابداعه!

 

يقول الفيلسوف الأكبر في القرن العشرين، صاحب بحث «الكينونة والزمان» مارتن هايدغر ان ما هو بديهي يصبح لدى البشر في حياتهم اليومية العادية حقيقة ثابتة مدى الزمان، ولكن فقط بالنسبة الى من يعتبرها بديهية. لكن الإشكال في اعتبار البديهي حقيقة مطلقة هو أنه يمنع البشر من البحث في جوهر ما هو بديهي. يعني أن البديهي يخرج من دائرة التساؤل الوجودي الذي يُمحِّص في الأشياء ويبحث في جوهرها. الجوهر في الشيء هو الأصل الذي يبقى ثابتا يتحدى الزمن، مهما تراكمت طبقات البديهيات على هذا الشيء المطروح للبحث. يقول هايدغر ان مسار الأمور اليومية من دون عوائق تبقي البديهي خارج السؤال، لكنه يدخل حتما في دائرة السؤال متى يتعطل المسار اليومي؟. هنا، وحتى يمكن البشر من إصلاح العطل، عليهم الانفتاح على الاحتمالات، لكن خارج ما هو فكر مسبق أو بديهي. من هنا، فإن هايدغر اعتبر أن الفلسفة اليونانية القديمة، من أفلاطون وما بعده، رمت لثاماً من البديهيات على الجوهر، لأنها افترضت تصنيف الأشياء ووضعها في خانات محددة. هايدغر يرفض التصنيف الجامد الذي يحدد الأنواع، بالأخص في ما هو مرتبط بالبشر. الكائن البشري هو حالة غير قابلة للتصنيف، لأنه متفاعل دائما مع العالم، ومتفاعل في الوقت نفسه مع الماضي والحاضر نحو المستقبل. بالتالي، لا يمكن تصنيفه كحالة ثابتة، بل يمكن فهم بعض منه من خلال الدخول في دائرة السؤال، منفتحين على الاحتمالات.

 

اعتذر مجددا عما سبق، ولكنني في كل مرة أغرق في دائرة التساؤل تلك للبحث في ما هو بديهي. ما هو بديهي اليوم هو كون الحوار وسيلة لإيجاد الحلول، ومن هنا فإن دعوة رئيس الجمهورية للحوار الوطني تصبح بديهيا دعوة محمودة، وبالتالي لا يمكن أحد أن يشكك في جدواها أو ينقب في مقاصدها، أو يسفح الآمال بها باليأس المسبق منها. لكن! من جَرّب المُجرّب كان عقله مُخرّب، أو كما يقول أنشتاين، ان من علامات الجنون هي تكرار الشيء نفسه وانتظار نتائج جديدة.

 

في البداية، وفي الجوهر، فإن الحوار الوطني يجب أن ينطلق من اقتناع في أن عُطلًا حيويًا وقعت فيه حالنا الوطنية. هذا العطل علينا البحث في جوهره حتى نتمكن من إصلاحه. من الواضح أن الجميع مقتنع في أن العُطل خطير ووجودي، وهذا ما قد يكون مدخلًا أساسيًا للحوار، أي اقتناع الجميع بعدم إمكانية تجاهل الأمر ومن ثم دفن الرؤوس في الرمال، لأن المسألة لن يحلها لا الزمن ولا الخارج، بل هي مرض خبيث محلي أولًا، أساسه مجتمعنا المنقسم على نفسه،على حد قول السيد المسيح «كل مملكة منقسمة على ذاتها وكل مدينة أو بيت منقسم على ذاته لا يثبت» (مت 25:12). يعني أن عقدة المجتمعات المختلفة «ثقافيًا واجتماعيًا لمجرد اختلاف الطوائف» المجبرة على «التعايش الوطني»، لم تلطف من حدتها مئة عام من العيش معاً، في الضراء، التي مسّت الجميع بلا استثناء في معظم الأحيان، وبعض السراء العابرة التي اختطفناها من بين النكسات، فكان بسببها أبناؤنا روادًا في العلم والثقافة والفنون. تلك هي ثقافات الانفتاح على الاحتمالات في العالم التي أتت ببعض السراء لبلدنا، وهي عكس ثقافة الموت والانغلاق واختصار كل شيء في عقيدة واحدة واحتمال واحد وطريق واحد «يمر من فوهة بندقية»، على قول نزار قباني في لحظة من «فوضى الحواس» على خلفية هزيمة 1967.

 

لن أذهب اليوم إلى الجدل العقيم عمّن سيكون راعي الحوار، فلطالما أن الحوار في لبنان، فلن يكون من يرعى الحوار إلا طرفاً له بديهياته وارتباطاته ومصالحه ومقاصده… فعندما انطلق الحوار الوطني عام 2006، رعاه رئيس مجلس النواب، رغم أنه طرف فاقع في المعادلة الإقليمية السياسية المذهبية. لكن، رغم ذلك، حصل الحوار، وتم التوافق على جملة من الأمور، وبقيت أخرى عالقة، أهمها الاستراتيجية الدفاعية، وهي التي تحولت مجرد ذكرى بعد حرب 2006، يوم افترضت قيادة الحزب المنتصر في «الوعد الصادق» أن هذه الاستراتيجية هي ما هو قائم، أي استناد الاستراتيجية الوطنية للدفاع على ميليشيا الحزب المرتبطة بإيران ونظام بشار الأسد كعمق استراتيجي.

 

وحتى عندما وصل الحوار إلى عهد الرئيس ميشال سليمان، الذي كان داعمًا للحزب في بداية عهده، أدرك بعد التجربة استحالة الاستمرار بما كان بديهيًا، خصوصا بعد أن ظهر دور الحزب الإقليمي غير المعترف بالحدود، بحسب قول أمينه العام في خطاب تسويغ الدخول إلى الحرب السورية، يوم أكد أن طريق القدس تمر في القصير. وحتى عندما أقر «إعلان بعبدا» ووقعه مندوب الحزب، تَنصّل منه بسرعة لاحقًا من دون أن يرف لصادقي الوعد جفن.

 

هنا ما يصبح بديهيًا هو أن الحوار، حتي يجدي، يجب أن يكون بين من يحفظون العهد ويقتنعون أن هدف الحوار ليس إقناع الآخرين بوجهة نظر فقط، بل هو الانفتاح على وجهات نظر آخرين. الأهم هو أن نتيجة الحوار تكون عادة تسوية مجدية بين مختلفين، تؤدي إلى الاستقرار والسلام والازدهار للجميع، بدل أن يكون الاختلاف سببًا للموت والدمار والفقر للجميع، من «أشرف الناس وأسيادهم، أو العبيد الأقل شرفًا». هذا يفترض بديهيا أن يكون الأطراف متساوين في القدرات، أكانت في الجنوح نحو السلم أو في اللجوء إلى الحرب أو حتى في القدرة على تحمّل الخسائر المحتملة في المعارك، حتى وإن كانت على طريقة «لو كنت أعلم». لكن التجربة المرة، وكلام قادة الحزب المكرر، وتصريحات القادة الإيرانيين في خصوص دور الحزب، تؤكد أن الحوار الوطني مع الحزب بهذا الموضوع غير ذي جدوى، لأنه بحسب قول أمينه العام أيضًا أكبر من هذا البلد الصغير الضيق على سكانه.

 

أما مواضيع الحوار الأخرى، من لا مركزية ووضع اقتصادي، فهي تصبح «تحصيل حاصل» إن اقتنع الحزب بجدوى البحث في استراتيجية تجعله متحررًا من مؤسسيه، ليعود ويتساوى مع اللبنانيين «الأغيار أو الغويم»، وهو التعبير الذي يستعمله اليهود العنصريون لوصف كل بشري غير مولود من أم يهودية. ببساطة، فإن لا شيء يجدي البحث به في حوار وطني، أكان لامركزية أشبعت درسًا من دون أن تصل إلى عتبات مجلس النواب لإقرارها، رغم أنها جزء من الدستور والميثاق الوطني. أما الوضع الاقتصادي فهو أيضًا ضحية من ضحايا عدم إقرار استراتيجية دفاعية تؤمن الاستقرار وتضع الأمن تحت سلطة الدولة وحدها وبالتالي جعل البلد مجددا نقطة جذب للاستثمارات.

 

منذ سنوات، عندما أطلق الرئيس ميشال سليمان نصيبه من الحوار الوطني، زلّ لسان الأمين العام لـ«حزب الله»، وهو المعصوم بحسب ظن أتباعه، فقال «الحمار الوطني» في أحد خطاباته بدل «الحوار الوطني»، أتراها كانت زلة لسان أم تعبيرا صادقا عن الرأي؟