إنتفاضة كنسيّة ضدّ تأخير الاستشارات
ليس انتقاصاً من أهميته إنما تصويباً لأهدافه… اقتراح العفو العام على الصيغة “الملغومة” التي تطرحها السلطة بات محكوماً بالسقوط “المعجّل المكرّر” ولن يمرّ غداً ولا بعد غد قبل تنقيته من الشوائب والنوايا المستترة خلف توقيته ومضمونه وطابعه “الأعمى” في التبصّر بالفئات الواجب استفادتها منه بعيداً عن ذهنية استغباء الناس واسترضاء المخالفين للقانون لغايات سياسية وحزبية في نفوس أهل الحكم. وإذا كانت معظم الكتل تتجه لحسم موقفها اليوم إزاء هذا الملف عشية انعقاد الجلسة التشريعية غداً وسط ترجيحات بإقدام رئيس المجلس نبيه بري على خطوة إرجائها درءاً للاصطفافات الطائفية والسياسية في المجلس مع الاقتراح وضده، فإنّ الساعات القليلة المقبلة ستحمل معها الكثير من المؤشرات الدالة على اتجاهات المشهد في الملف الحكومي حسبما تفيد تقاطعات المعلومات.
فالترقب يسود اليوم لاتضاح موقف “حزب الله” أكثر فأكثر على لسان أمينه العام السيد حسن نصرالله خلال إطلالته المتلفزة التي وضعتها قناة “المنار” في خانة “وضع النقاط على حروف الفتنة”، وسط تجديد مصادر مطلعة على موقف “الحزب” عشية إطلالة نصرالله استمراره في رفض أي صيغة حكومية لا تضم في تشكيلتها وزراء سياسيين، فضلاً عن استمرار عقدة توزير رئيس “التيار الوطني الحر” جبران باسيل على حالها في ظلّ إحكام رئيس الجمهورية ميشال عون قبضته على ورقة التكليف واستحكام موقف الثنائية الشيعية بضرورة تمثل القوى السياسية في الحكومة العتيدة كشرط لإطلاق عجلة التأليف.
وفي السياق، كشفت مصادر رفيعة مطلعة على المشاورات الحكومية لـ”نداء الوطن” أنّ “حزب الله وإن كان فعلاً يتحسس خطورة تأخير التشكيل لكنه في الوقت نفسه لا يمانع استمرار تصريف الأعمال إلى أجل غير مسمى طالما لم تتحقق شروطه الحكومية معتبراً أن الشعب في نهاية المطاف سيتعب قبل أن يتعب الحزب”، وأوضحت المصادر أنّ المراوحة القائمة تدور بشكل أساس حول هذه النقطة حيث لا تزال قيادة “حزب الله” مصرة على ولادة حكومة مختلطة من التكنوقراط والممثلين للقوى السياسية الرئيسية، وفي المقابل لا يزال الرئيس سعد الحريري على رفضه ترؤس أي حكومة تضم في تشكيلتها سياسيين تماشياً مع تطلعات الناس، كاشفةً في هذا الإطار أن الحريري ومن ضمن محاولته لتأمين التوافق على دعم شخصية غيره لرئاسة الحكومة بهدف الخروج من الأزمة اصطدم برفض كل من “حزب الله” و”التيار الوطني الحر” لاقتراح تولي السفير السابق في الأمم المتحدة القاضي في محكمة العدل الدولية نواف سلام مهمة تشكيل الحكومة، فكان جواب “الخليلين” (علي حسن خليل وحسين الخليل) مزيداً من الإصرار على ترؤسه شخصياً الحكومة ربطاً بصفته التمثيلية ولأنه الأقدر على مخاطبة المجتمع الدولي في ظل الأزمة الكبيرة التي تمر فيها البلاد “ومستعدون للمرونة في تسمية وزراء مقربين نشترك وإياك في اختيارهم بشكل يريحك”.
وإذا كان الإصرار على ضم سياسيين إلى الحكومة العتيدة أدى تلقائياً إلى إعادة طرح توزير باسيل، فإنّ المصادر نفسها رجحت أن يكون هذا الإصرار “بهدف تعزيز أوراق التفاوض الحكومي للحصول على ثمن مقابل التخلي عن باسيل” على أن يبقى الأساس في العملية موقف “حزب الله” إزاء شكل الحكومة وتركيبتها.
في حين نقلت مصادر وزارية بارزة لـ”نداء الوطن” أنّ اجتماع قصر بعبدا المصرفي برئاسة عون لم يأت في مضمونه بأي جديد بل بالعكس من ذلك أظهر الهوة في النظرة إلى الأمور لا سيما عندما توجّه المجتمعون إلى رئيس الجمهورية بالتشديد على كون حل الأزمة يكمن أولاً وأخيراً في تسريع عملية تأليف حكومة تستعيد ثقة اللبنانيين والمودعين فما كان من وزير الرئاسة سليم جريصاتي إلا أن أجابهم بالقول: “إنتو اشتغلوا شغلكم ونحنا منشتغل شغلنا”. وبالأمس تفاعلت قضية تعمّد تأخير الاستشارات النيابية الملزمة لتعيين رئيس مكلّف تشكيل الحكومة، بشكل بلغ مداه مع ما يشبه الانتفاضة الكنسية ضد عرقلة التكليف والتأليف، سواءً عبر “العظة” الواضحة التي وجهها البطريرك الماروني بشارة بطرس الراعي إلى رئيس الجمهورية بوجوب الإسراع في إجراء الاستشارات لتكليف رئيس للحكومة وتأليفها “كما يريدها شعبنا فحال البلد لا يتحمّل أي يوم تأخير”، معرباً في المقابل عن أسفه لأنّ البعض “يكشف بنفسه أنّ مصالحه المادية والسياسية ومكاسبه الخاصة تعلو على الخير العام وعلى الدولة المهددة بالانهيار”. وإذ نصح بأن لا يعتدّ أحد بقوته أمام النهر الشعبي الجارف، نبّه الراعي إلى أنّ “الاستمرار في عرقلة تأليف حكومة جديدة تحظى بثقة الشعب هو حكم على الذات بتهمة الانهيار وإسقاط الدولة ولعنة التاريخ”، داعياً إلى “تطهير هيكل الوطن من عبادة الأوثان الجديدة: الإيديولوجية والشخص والحزب والمال والسلطة والسلاح والنفوذ والفساد”.
وكما البطريرك الماروني، كذلك جاءت عظة متروبوليت بيروت وتوابعها للروم الارثوذكس المطران الياس عودة الذي استغرب تجاهل المسؤولين لصراخ الشعب منذ ثلاثة أسابيع، وقال: “الأب لا يهمل أبناءه ولا يصم أذنيه عن سماع طلباتهم (…) التغيير واجب فلم الانتظار؟ لم نعد نملك ترف إضاعة الوقت ولم يعد ممكناً تجاهل الناس واستغباؤهم”، وتساءل: “ألا يستدعي الخطر المحدق بنا جميعاً أن يتخلى الجميع عن أنانياتهم ومصالحهم وحصصهم من أجل إنقاذ ضروري وسريع؟ ماذا ننتظر لتأليف حكومة؟ ولم لا تؤلف وفق أحكام الدستور؟ لم لا نطبق الدستور فتجرى الإستشارات ويكلف رئيس تأليف حكومة بعيدة عن التجاذبات السياسية أو المقاربات التقليدية والمحاصصة ترضي طموح الشعب وتكون مهمتها إنقاذ البلد؟”.