Site icon IMLebanon

مزاج لبناني يعتمد التطبيع «لَهّاية»!

 

يدورُ حديث «غير سياسي» في البلد، هو التطبيع مع إسرائيل. «غير سياسي» لأنه لا رئيس الجمهورية موافق عليه، ولا رئيس الحكومة، ولا رئيس مجلس النواب. حتى الآن، فإن التطبيع هو تصاريح أميركية من ويتكوف مبعوث ترامب للشرق الأوسط، وأورتاغوس المبعوثة إلى لبنان، في محاولة أوليّة لزرع الفكرة بين اللبنانيين المنقسمين حولها وحول غيرها من القضايا مزاجياً وطائفياً وسياسياً. الرئيس عون بمعرفته العسكرية يدرك استحالته وتنفيذه غبّ الطلب الأميركي. الرئيس سلام يقول لن أمشي في المشروع ويضيف أن هناك فئات كبيرة غير الثنائي الشيعي، ترفضه في هذه المرحلة بعد عدوان لم يُبقِ ولم يذَرْ في الجنوب والبقاع والضاحية وبعض لبنان ككل. والرئيس برّي لا يسمح حتى بطرحه. بعض القوى المسيحية توافق عليه، وقوىً أخرى تعتبره غير مُتاح.

غير أن المشكلة هي في مباهاة بعض الإعلاميين على بعض السياسيين على بعض المحطات التلفزيونية التي تدعو إليه، من دون أي تردد ومن دون أن تناقش حيثياته وتفاصيله، وأوّلُ طَرْحِه تجد من يقول لك هذه هي الدول العربية التي طبّعت مع إسرائيل تعيش أفضل حالات ازدهارها، من الإمارات إلى المغرب إلى الأردن ومصر، وسوريا على الطريق. ويحلو للمتحدّثين المستعجلين على التطبيع أن يتناولوا الأمر عبر البروباغندا وكأنه عناقٌ «إبراهيميّ» حقيقي. فالإمارات وقطر مزدهرتان قبل التطبيع لا تحتَه، والبحبوحة المالية هي السبب لا برانيط الحاخامات المتجوّلين فيها. أما مصر فكأنّ الجماعة المحبذة للتطبيع عندنا لا تقرأ ولا تتابع التهديدات الأميركية والإسرائيلية لمصر، مباشرةً ومداورةً، وطبول «الحرب» تُقرَع في الصدور ولم تبلغ الأرض بعد. وأين الازدهار المالي والاقتصادي المصري، وكل ما يُبنَى كأنما يُبنى على كف عفريت، لأن إسرائيل ترغب وتسعى لتنفيذ تهجير مليون فلسطيني إلى مصر؟ والأردنّ ! هل رأى «مُطبّعو» لبنان فكرياً كيف كان ملك الأردن أمام الرئيس الأميركي ترامب على خلفية مطالبة ترامب بحلّ قضية الفلسطينيين عبر الأردن؟ والازدهار المالي والاقتصادي أين هو في المملكة الهاشمية؟

 

أما الكلام على السلام والتطبيع بين السلْطة الفلسطينية وإسرائيل، فلم يعد هناك أصلاً وجود لدولة فلسطينية بالمَرّة. والمال والاقتصاد المزدهِر « واضحان» للعيان!

على أي سنَد يتحدث لبنانيون عن التطبيع «الجالب للاستثمارات العربية والعالمية»، وكيف سيكون الاستقرار السياسي والاجتماعي والاقتصادي والأمني بين ظهرانينا «ليرفع» لبنان من أنقاضه ويُدخله جنة التطبيع، ومن قبل الحرب الأخيرة كان الفساد قد أكل الدولة، ثم جاءت الحرب فأكملَت عليها!

حتى المملكة العربية السعودية وهي أقوى دولة عربية مادياً ومعنوياً لا تستطيع بحكم دورَيها العربي والإسلامي أن تتجاوز الحق الفلسطيني وتنادي بالتطبيع «من الباب للطاقة» على الطريقة اللبنانية؟

 

إن حرية الإعلام في لبنان يجب أن تشمل، مع التركيز على «محاسن» التطبيع، الانتباه إلى مساوئه القريبة والبعيدة. أوَليس مُخجلاً أن محطات التلفزة اللبنانية، حتى الآن، لم تقدّم حلقة واحدة بعنوان «تداعيات التطبيع إذا حصل» في معرض النقاش الفكري والسياسي والثقافي للخطر اليهودي الماثل أمام الجميع في حال التطبيع. فكل ما نراه هو مماحكات «وليش ما بدنا نطبّع.. غيرنا طبّع ومشي حالو»ّ أو «بدنا نضل لاحقين إيران..؟ خلَص». لا دَخْل لإيران ولا لأي بلد عربي، طَبَّع أم لم يُطبِّع بخصوصياتنا اللبنانية. نعَم هناك فئات سياسية وطائفية في البلد لا حرج عندها في الحضن الإسرائيلي، لكن عليها الاعتراف بغيرها وآرائهم وحقائقهم تجاه إسرائيل ومشروع التوسّع الذي فَضَحَت تفاصيله خرائطُهم على أكتاف بذلات الجنود، وتقضم بعض لبنان. لبنان ١٠٤٥٢ كلم مربعاً لن يبقى على واقعه الحالي. سيصبح نصف لبنان تقريباً. فما هي الدوافع والضرورات والأسباب الموجبة التي تجعل لبنان يوافق على انتزاع مناطق منه. القوة الإسرائيلية؟ كل عمرها إسرائيل قوية. التراجع العربي تجاهها؟ كل عمره كان هناك تراجع تجاهها إلا في مراحل عابرة. الوضع الدولي؟ ولا مرّة الوضع الدولي كان معنا في حروبنا مع إسرائيل فماذا تغيّر؟ من يطالب بالتطبيع يستغني عن حقه في أرض لبنان. وإذا كان اقتطاع جزء منه لا يمسّه طائفياً ولا مناطقياً، فليس كل الناس في لبنان للبيع والشراء! الإسرائيلي بعد وقف نار عدوانه الأخير، وبدء حربه على الأراضي السورية بصلَف صهيوني كامل، وبوقاحة تلمودية مغطّاة أميركياً، بات الساكت عنها يشعر بأنه شيطان أخرس. جيش الدولة العِبرية يضرب في غزة وفي لبنان، ويحتل في سوريا بالكيلومترات كل يومين، ويطلع لك لبناني يقول لك لنذهَب إلى التطبيع. فهل سأل هؤلاء أنفسهم إذا كانت إسرائيل ستوفّرهم إن هي دخَلتَ لبنان وعملت فيه على قاعدتها «فرّق تَسُد»؟ جماعات ثرثارة لا أكثر، منتشرة على المحطات التلفزيونية وموضوعها التطبيع والتنظير له بلا ضوابط ولا شروط ولا تنبّه لشيء، تماماً كأننا سنُطبّع لبنان مع بلاد الجنات التي تجري من تحتها الأنهار.

 

ولا بأس في أن يُعذّب بعض إعلاميينا وإعلامياتنا أنفسهم بقراءة وثائق وتقارير عن أهداف إسرائيل في أرضنا وشعبنا، وعن أسرار الدول العربية التي سالَمَتها وماذا فعلت بها، وتحاول أن تفعل، ليعرفوا كيف يناقشون المطالبين بالتطبيع ومشاريعهم الارتجالية لما بعد. فإذا كانت إسرائيل قد اخترقت المجتمع اللبناني في أخطر شبكات التجسّس التي تنكشف يوماً بعد يوم من عشرات السنين، وتمكنت من اختراق إحدى أعتى المقاوَمات العربية والإسلامية وأشدّها كتماناً، أي «حزبالله» ونالت منه في ضربات أمَاتت أمينها السيد حسن نصراالله قبل أن يموت مستشهداً على يديها المارقتين، فعلينا أن نتصوّر غداً وحالتنا الوطنية اللبنانية كلها مفتوحة أمامها ماذا يمكن أن تفعل. وليس تضخيماً القول إن خطرها أكبر من سرطان مدمّر… إلّا لمن يستعد إيجاباً لها من الآن ويغازلها وينتظرها لا ليكون نصيراً كما يعتقد، بل عبداً كما تهوى هي.

إلى الآن إسرائيل وشعبها غير مقبولَين في الشارع المصري، ولا الأردني، رغم معاهدتيّ الصلح من خمسين ومن ثلاثين عاماً، والشارع العربي ككل يتابع ما جرى ويجري في غزّة ولبنان، وسوريا حالياً، من آثار الجيش الإسرائيلي، ويبني وجهة نظره على هذا الأساس المتواصِل مع الماضي، فكيف سيدخل لبنان التجربة وإلى ماذا ستنتهي؟

إسألوا المطبّعين «بالأفكار» عن الموضوع، وبشكل دقيق، لتدركوا أنهم مُلَقَّنون عبارات يرددونها أمامنا تلفزيونياً ويقبضون الثمن من ورائنا، ومنطقهم منطق التجارة مع بعض عناوين الازدهار المزعوم لا أكثر ولا أقل.

أغلب الأطفال الرّضَّع، يقتني الأهل لهم «لَهّاية» هي عبارة عن «مصّاصة» تقوم مقام قنينة الحليب الخاصة بهم، لكن من دون حليب، وتوضع في أفواههم ليكفوا أحياناً عن البكاء وليتسلّوا بها. التطبيع مع إسرائيل هو «لهّاية» للمجتمع السياسي اللبناني، لكن السؤال مَن وضَعها في الأفواه كقنينة الحليب الكامل الدسم، وهي فارغة؟