عودة الغارات الإسرائيلية على الضاحية الجنوبية رداً على صواريخ أعلنت إسرائيل أنها استهدفت الجليل الشمالي من الجنوب اللبناني على دفعتين خلال أسبوع واحد، تؤشر إلى أن التحذيرات الدولية ولا سيما الأميركية والفرنسية للبنان كانت في محلها، علماً أن هذه التحذيرات تحمل في طياتها اعترافاً من واشنطن وباريس بالعجز عن منع إسرائيل من شن الهجمات على لبنان بحجة محاربة “حزب الله”، واستهداف سلاحه والمخازن والمستودعات ومعابر التهريب، فضلاً عن ملاحقة الكوادر، علماً أن محاولات الاغتيال قد تشهد تصاعداً ملحوظاً.
يقول سياسي سيادي بارز، إنه استنتج من جملة لقاءات واتصالات، أن إسرائيل لن تتخلى عن النقاط الحدودية الخمس التي تحتلها، ولن توقف غاراتها على لبنان حيث ما تجد ضرورة لذلك وفق منطقها، طالما أن “حزب الله” يحتفظ بالسلاح الثقيل وبكميات ضخمة من الذخائر، ويصر على تهريب ما أمكن من سلاح عبر الحدود اللبنانية السورية، على الرغم من رحيل نظام بشار الأسد، مستغلاً الحاجات المادية لفئة من السوريين لنقل ما أمكن من عتاد وذخائر، علماً أنه تم ضبط بعض الشحنات من قبل السلطات السورية الجديدة.
إن إصرار إسرائيل على مواصلة خروقاتها، تعرفه جيداً عواصم القرار، ومن الصعب عملياً على هذه العواصم بما فيها واشنطن ردع إسرائيل، وأقصى ما يمكنها طلبه هو دعوة بنيامين نتنياهو إلى تجنب قصف بنى تحتية معينة. ومن الواضح أن إسرائيل تريد القضاء على المعادلة السابقة التي توازي بين جيشها وسلاح “حزب الله” على قاعدة توازن معين، خصوصاً وأن التطورات أسقطت هذا التوازن، وجعلت إسرائيل تتصرف وما زالت على أنها المنتصر وأنها هي التي فرضت الشروط لوقف إطلاق النار.
وفي معلومات ملفتة، فإن “حزب الله” يُقدِم على كل ما يمكن أن يستدرج إسرائيل مجدداً إلى توسيع ضرباتها وبالعمق، والدليل استمراره في رعاية التهريب من خلال معابر عدة غير شرعية مع سوريا لم يتمكن الجيش اللبناني من ضبطها حتى الآن، علماً أنه يبذل أقصى إمكاناته المتوافرة في هذا المجال.
وثمة دليل آخر يتمثل بعودة “حزب الله” إلى سحب كميات أخرى متبقية من المخزن الضخم الذي قصفه الطيران الإسرائيلي في رياق – حوش حالا في منتصف تشرين الأول الماضي، بعدما سحب منذ ثلاثة أسابيع كمية أولى تضمنت ذخائر ثقيلة، وما زال قسم آخر موجوداً في الطبقات الدنيا من المبنى، مع العلم أن “الحزب” يسحب هذه الذخائر من دون أن يعترضه أحد.
وترى أوساط دبلوماسية أوروبية أن مسألة سلاح “حزب الله”، مسألة وقت بالدرجة الأولى، لأن القرار الدولي واضح وحاسم لجهة رفض استمرار أي سلاح خارج إطار السلطة الشرعية اللبنانية، و “حزب الله” ومن خلفه إيران يدركان ذلك تماماً، ولذلك يسعى “الحزب”، وعلى رغم انتقاداته لبعض أداء الحكم، إلى التلطي بالسلطة الشرعية وبالحكومة اللبنانية، ولا يبدي أي اعتراض جدي وجذري لما يؤكد عليه رئيس الجمهورية ورئيس الحكومة من ضرورة بسط سلطة الدولة حصراً على مختلف الأراضي اللبنانية وحصر قرار الحرب والسلم بها.
وفي هذا الإطار، تلفت الأوساط إلى أن الأميركيين لن يقفوا في وجه نتنياهو في ما يخطط له حيال لبنان وحيال غزة وسوريا، لأن الهدف الأساسي هو ضمان أمن إسرائيل وسكانها شمالاً عند الحدود اللبنانية وجنوباً في محيط غزة، علماً أن واشنطن تريد لبنان منصة متقدمة لإطلالتها على المنطقة، ولن تسمح باحتفاظ أي قوة أو حزب أو فئة لبنانية بسلاح غير شرعي، وما يجوز على لبنان تسعى واشنطن إلى تعميم جوازه على دول عدة في المنطقة، من سوريا إلى العراق، مع العلم أن الظاهرة الحوثية لها علاج مختلف.
وما يؤكد الرغبة الأميركية، هو أول تعليق أميركي على تعيين كريم سعيد حاكماً لمصرف لبنان، إذ أكد الناطق باسم مجلس الأمن القومي جيمس هيويت، أن ما يهم بلاده هو مراقبة لصيقة لسياسات بيروت لا سيما في ما يتعلق بتمويل “حزب الله” وقدراته العسكرية وتنفيذ الإصلاحات المنشودة. وهذا يعني أن مسألة سلاح “الحزب” لا جدال فيها بل إنها باتت مسألة وقت.
أما الفرنسيون، فصحيح أنهم يتمايزون عن الأميركيين في مقاربة الحلول والمعالجات، لكن الأكيد أن ليس لديهم الكثير ليقولوه ويفعلوه، في ضوء تماهي موقفهم أكثر فأكثر مع الموقف الأميركي، وإدراكهم أن التعاطي مع الشأن اللبناني يرتبط جذرياً بملف المنطقة وإيران تحديداً، مع انكفاء فرنسا عن تخصيص رعاية خاصة للشأن الإيراني عبر الانفتاح، كما حصل حتى وقت غير بعيد، على النظام الإيراني من أجل توفير صفقات ومصالح مالية واقتصادية.
في الخلاصة، المطلوب كأولوية أميركية حماية الحدود الإسرائيلية الشمالية بشكل نهائي وحاسم، واستعادة الدولة اللبنانية قرارها بعد تخلي “حزب الله” عن سلاحه، وفق معادلة تبدو أكثر من هدنة 1949 وأقل من تطبيع بين لبنان وإسرائيل، حتى ينصرف اللبنانيون إلى معالجة قضاياهم من دون تدخلات خارجية، ولكن تحت المظلة الأميركية التي لا منازع لها في الشرق الأوسط حتى إشعار آخر.
