زيارة رئيس الحكومة نواف سلام الى طرابلس وعكار مباركة ومطلوبة، حيث سيطَّلع مع عدد من الوزراء الاساسيين على الاوضاع الاجتماعية والأمنية، تمهيداً لاعتماد خطة للنهوض اقتصادياً من اجل رفع حالة الحرمان، وتخفيف اثقال حالة الفقر التي ترزح تحتها الطبقات الفقيرة والمعدمة، الامر الذي كان دائماً سبباً جوهرياً من اسباب الاهتزازات الامنية المتكررة التي يشهدها بعض احياء مدينة طرابلس.
لكن نأمل ان لا تنتهي الزيارة باطلاق مجموعة من الوعود بتقديم «المن والسلوى» للمواطنين، وتستمر بالنتيجة حالة التخلف والفقر والحرمان على ما هي عليه منذ ما يزيد على خمسة عقود، وتتكرر المآسي الاجتماعية للسكان، وهذا ما يذكرنا باهمال الحكومات المتعاقبة لمطالب السكان، وخصوصاً تلك التي ضمّت رئيس حكومة واربعة وزراء اساسيين في صفوفها، والتي اهلمت وفشلت في تنفيذ اي من المشاريع الاقتصادية والاجتماعية الملحّة.
ان تجربتنا القصيرة مع رئيس الجمهورية جوزاف عون ومع حكومة الانقاذ والاصلاح برئاسة نواف سلام وعضوية نخبة من الشخصيات غير السياسية، والمشهود لها في انجازاتها قبل دخولها الحكومة، لا تسمح لنا باصدار احكام متسرّعة، حول ما يمكن ان تؤدي له هذه الزيارة من مشاريع نهضوية واقتصادية لطرابلس وعكار، وذلك بدءاً من اقامة المنطقة الاقتصادية او الشروع فعلاً في مشروع اعداد وتشغيل مطار القليعات، بالاضافة الى تخصيص الموازنات الخاصة لتنفيذ العديد من مشاريع البنى التحتية الاساسية التي تفتقدها المدينة ومختلف اقضية الشمال.
سبق لي وعبّرت عن آمالي وتفاؤلي بانتخاب الرئيس عون وتشكيل الحكومة السلامية من خلال افتتاحية سابقة في جريدة «اللواء» تحت عنوان «عهد وحكومة الأمل والحلم». وانني اذ اقدّر اهتمام الرئيس والحكومة، بالقطاع الامني والعسكري، والذي افضى الى اجراء التعيينات الامنية الاخيرة، والتي من المتوقع ان تؤدي الى تسريع الاجراءات الملحّة لتنفيذ القرار 1701 وبالتالي تسريع الانسحاب الاسرائيلي من التلال الخمس وتسهيل عودة المواطنين الى قراهم على طول الخط الازرق، بالاضافة لتفعيل دور الجيش لضبط الحدود الشرقية والشمالية من قبل الدولة، بعد ان غابت عن القيام بهذه المهمة السيادية ما يقارب خمسة عقود على الاقل.
ولا بدَّ في هذا السياق ان نتوقع ونأمل بتفعيل عمل قوى الامن الداخلي للقيام بواجباتها لجهة ضبط الامن ومكافحة الجرائم وقمع المخالفات، واستعادة هيبة الدولة والقانون. لكن وانطلاقاً من تجربتي الطويلة في الحقل الامني والعسكري، وفي مجال العمل العام والاعلام والعمل الاكاديمي فإني اسجّل على الحكومة، بطء العمل والتردد، بالرغم من انها تدرك بانه من المطلوب والمتوقع منها تسريع اتخاذ القرارات المطلوبة للانطلاق فعلياً في ورشة الانقاذ والاصلاح. وأن عليها ان تدرك مدى حراجة اتخاذه لعدد من القرارات التي تفتح الباب لوضع خطة الانقاذ الاقتصادي والمالي. وتأتي في طليعة هذه القرارات تعيين حاكم للبنك المركزي ونوابه، وايضاً اعضاء لجان الرقابة المالية، وللأسف ان الحكومة وبالرغم من ادراجها الكلي لاهمية الموضوع فما زالت تتباطأ في تعيين حاكم من بين اربعة مرشحين، وهذا الامر غير متوقع او مقبول منها، وكان من المنتظر ان تتخذ الحكومة قرارها بالانتقاء بين المرشحين خلال ساعات معدودة، بدل تأخير القرار لعدة اسابيع، تدرك الحكومة ورئيسها ان هذا التأخير في تعيين الحاكم سينعكس سلباً على اهم الاصلاحات والبرامج التي وعدت الحكومة بانجازها في بيانها الوزاري، وابرزها واكثرها الحاحاً وضع خطة للمفاوضات مع صندوق النقد الدولي، والتي تتطلب وضع مخطط تفصيلي للمشروع الذي يخدم عملية النهوض المالي وبرنامج تصحيح الموازنة، وسد الفجوة المالية، ومستقبل الودائع واعادة هيكلة المصارف، وتعديل السرية المصرفية، ووضع رؤية واقعية للتعامل مع الديون وخصوصاً سندات «اليورو بند» والتي يتوقف عليها استعادة الثقة بالدولة اللبنانية، وتأهيلها بالتالي للعودة الى الاسواق المالية العربية والدولية.
ولا بد ان تدرك الحكومة مجتمعة، بانه لا يمكن للبنان توقع وصول مساعدات ومنح مالية دولية او عربية في ظل الظروف الراهنة والمحمّلة بكل إرث الفساد المستشري في كل جسم الدولة منذ عقود، والذي ادى الى سقوط البلد سياسياً ومالياً، والذى تبخّر ما يزيد عن 120 مليار دولار من الوفر الوطني وجنى عمر اللبنانيين.
يبدو لي ان موضوع اعادة هيكلة القضاء ووضع تشكيلات قضائية تفعّل وتحسن وتسرّع عمل النيابات العامة والمحاكم على مختلف درجاتها لا يقل اهمية عن تعيين حاكم للبنك المركزي. وفي هذا السياق ان اطلاق رئيس الحكومة اسم حكومة الانقاذ والاصلاح على حكومته يفترض ان تقوم الحكومة بخطوات جادة على طريق محاربة الفساد وتطهير الادارة من كل العناصر الفاسدة، وخصوصاً لجهة منع الرشوة ومعاقبة او طرد المرتشين من كل الوزارات والمصالح والمديريات المالية والعقارية والجمارك والموانئ والمطار. ويتطلب هذا الامر دون شك وجود قضاء فاعل وصارم ومستقل. وان محاربة الفساد تفترض ان يفعل رئيس الحكومة عمل مختلف اجهزة الرقابة، وحقها على ضبط الادارة والمالية العامة، وان تعطى كل الحرية والدعم السياسي لتفعيل عملها، وذلك انطلاقاً من قول الرئيس فؤاد شهاب «دعوهم يمارسوا اعمالهم وصلاحياتهم».
يعلم رئيسا الجمهورية والحكومة مدى حاجة الدولة لتحصيل ضرائبها ورسومها كاملة، منعاً لوجود عجز في الموازنة، وجباية ما يكفي من الاموال لزيادة قسم الاستثمارات في ابواب الموازنة، ويتطلب هذا الامر تفعيل جميع الادارات المالية والجمارك ومؤسسات الدولة الاخرى، ولم نرَ فعلياً اي اجتماعات او توجيهات تصدر عن رئاسة الحكومة او وزير المالية او اي تحرك من قبل النيابة المالية لضبط مصادر تمويل الخزينة، والتي ما زالت في عملها تشبه «مغارة علي بابا».
يا فخامة الرئيس ويا دولة الرئيس نحن سعيدون بوجودكما على رأس الدولة، وانتما تعلمان حجم المسؤوليات الكبار الملقى على كتفكما، وان ضخامة العمل وحراجة الوقت تستلزم منكما تسريع عملكما الانقاذي، مع الاستعانة بمكاتب ولجان تخطيط ومتابعة.
من المؤكد ان دولة الرئيس يدرك مدى اهمية تسريع انتاجية الدولة، وهذا يتطلب حث جميع الوزراء والادارات على رفع مستوى انتاجيتهم، وتوسيع جبهة اهتماماتهم لتشمل جميع حقول المسؤولية المنوطة بهم.
ومن اجل النجاح في تحقيق الاهداف الاصلاحية المرجوة لا بد بأن لا تكتفي رئاسة الحكومة بعمل مديرياتها التقليدية، بل لا بد من انشاء لجان تخطيط ومتابعة، مهمتها توجيه الوزارات ودفعها لزيادة انتاجيتها.
ان عودة لبنان الى المكانة التي يستحقها دولياً وعربياً تتطلب المزيد من العمل والنجاح ضمن برامج واجندات تخدم فعلاً مسيرة الحكومة من اجل تحقيق مسيرة الانقاذ والاصلاح التي وعدنا بها الرئيس سلام، ومنعاً لسقوط جميع الوعود الكبيرة التي ادرجها خطاب القسم والبيان الوزاري.
