قبل دخول روسيا العسكري المباشر وفرض نفسها كفاعل رئيس في الموضوع السوري، كان الكثير من المحليين ما زالوا يستبعدون الفرضية القائلة بأن واشنطن يمكن أن تقبل بزيادة النفوذ الروسي في المنطقة، ناهيكم عن إمكان فرض شروطها بما يتعلق بحل الأزمة السورية.
المواقف الأميركية إزاء الوضع في سوريا، خصوصاً حيال الرئيس بشار الأسد، حتى تاريخ 30/9/2015، كانت ما انكفت ترفض الأطروحات الروسية المتصلة بهذا الشأن. صحيح أن الرئيس باراك أوباما لم يكفّ عن الدعوة والنصح للأخذ بسياسة «الصبر الاستراتيجي» التي ينتهجها حتى وإن تطلّب ذلك التراجع عن المزيد من خطوطه الحمر إلا أنه كان يلوّنها أحياناً بتصريحات نارية مخادعة، كالتي أطلقها على هامش أعمال الدورة 70 للأمم المتحدة، مشدداً فيها أن «إلحاق الهزيمة بتنظيم الدولة الإسلامية في سوريا يتطلّب قائداً جديداً»، وأنه «لا مجال لمحاربة تنظيم الدولة الإسلامية في ظل بقاء الرئيس الأسد»، وذلك رداً على دعوات روسية لـ»تشريك الأسد في الحرب على التنظيم المتطرّف».
لكن المواقف الأميركية هذه كان بدأ يخالطها تصريحات أخذت تتحدث عن إمكان التساهل في بقاء الأسد، ولو لفترة وجيزة من الزمن، خلال المرحلة الانتقالية. وزير الخارجية الأميركي جون كيري أعلن آنئذ أنه «ليس بالضرورة أن يكون خروج بشار الأسد من السلطة في اليوم الأول أو الشهر الأول»! ثم أضاف أن عملية تجاوز الوضع برمته في الشرق الأوسط «تتطلب رويّة وحكمة» في إدارة هذا الأمر، مشيراً إلى أن التوافقات بين أميركا وروسيا وبريطانيا وباقي القوى الكبرى في العالم رأت أن «بقاء الأسد أمر معقول» في هذه الفترة، وتلك كانت البداية، و»أول الرقص حنجلة» كما يقول السوريون، فقد كرّت سبحة التنازلات الأميركية بعد ذلك، من دون أن يتّضح أين ستقرّ في النهاية.
حتى الموقف الفرنسي، فقد بدا بدوره حينها وكأن أخذ يتماهى مع الموقف الأميركي، على رغم أن العاصمة الفرنسية لطالما أعلنت، وعلى لسان كبار المسؤولين فيها؛ أن «حل الأزمة السورية يكمن في إبعاد الأسد عن السلطة». وعلى سبيل المثال فقد اعتبر الرئيس فرنسوا هولاند في كلمته أمام الجمعية العمومية للأمم المتحدة أنه من الخطأ تجريم تنظيم داعش فقط، مشيراً إلى أن «النظام هو الذي هيّأ الأرضية لذلك، وأن الملايين من اللاجئين الموجودين في دول جوار سوريا، والذين يرغبون في الذهاب إلى أوروبا، لم يفرّوا من الحرب فقط بل من نظام الأسد».
حينها أعلن مسؤولون أميركيون أن كيري بصدد طرح مبادرة جديدة للتوصل لحل سياسي في سوريا، بعد أن أخفقت عملية «جنيف1» في إنهاء الصراع السوري. واعتبر كيري وقتها أن «بقاء الأسد في نظر الولايات المتحدة ليس سوى أداة لتحقيق الإجماع المبدئي حول حل ما للأزمة السورية»، مؤكداً أن «أميركا لا تريد بأي حال من الأحوال بقاء الأسد»، لكن «اللقاء الدولي حول طاولة واحدة قد يتطلب ذلك»!
بعد الدخول العسكري الروسي، غير المفاجئ لدعم الأسد، واستفحال أزمة اللاجئين السوريين التي امتدت من المنطقة إلى أوروبا، بدأ يتضح أن التوصل إلى وضع حل للصراع السوري بات أكثر إلحاحاً، ولكن هذا تطلّب تقديم المزيد من التنازلات من الإدارة الأميركية التي كانت مستعدة لتقديمها أصلاً، والتي لم تمنع «بهلوانيات» كيري وتشاطره اللفظي، من الانزلاق إليها وإبداء كل الاستعداد لتقديمها.
إذن، منذ ذلك الوقت بدأ المراقبون يلاحظون أن التصريحات الأميركية أخذت توحي بأن «بقاء الأسد يعدّ من بين الحلول المتاحة للتهدئة». صحيح أن «عقدة الأسد» استمرت كنقطة خلافية بين واشنطن وموسكو، كما حصل في القمة التي جمعت الرئيسين أوباما وبوتين في نيويورك (28/9/2015)، حيث حمّل أوباما بعدها الأسد مسؤولية وصول الأزمة السورية إلى مرحلتها الراهنة، داعياً إلى تذكّر سبب النزاع حين «ردّ الأسد على التظاهرات السلمية بالتصعيد والقمع والقتل، بما فيه قصف شعبه بالسلاح الكيماوي والقذائف العشوائية»، وهو ما يوجب العمل على «تحقيق انتقال سياسي بعيد من الأسد»، ملقياً باللوم والإدانة على من يؤيدون قادة مثل الأسد، الذي وصفه بأنه «طاغية قاتل للأطفال».
بيد أن بوتين، وعلى رغم ذلك كله، ردّ على أوباما حينئذ، في شكل غير مباشر، مشدداً على ضرورة دعم الرئيس الأسد، في سياق محاربة تنظيم «داعش»، محاولاً تبرير موقفه بأولية محاربة الإرهاب من جهة، ومنع «الصوملة» وتدمير بنى الدولة السورية من جهة أخرى، بل ومعتبراً أن «لا أحد يقاتل داعش في سوريا سوى قوات الأسد والميليشيا الكردية». وكان له ما أراد، في كل ذلك أو أغلبه! وصولاً إلى التسليم «بمحورية الدور الروسي في سوريا».
والحال، فبعد المتغيرات والتبدّلات الميدانية الكبيرة التي فرضها الدخول الروسي إلى سوريا، على كل الجبهات تقريباً، واقتناع أغلب العواصم الدولية والإقليمية بأولوية مكافحة الإرهاب، ألا يبدو طبيعياً والحال هذه، أن لا تقبل موسكو بتحجيم دورها، وأن تعمل جاهدة على فرض شروطها، وتالياً شروط حليفها في دمشق، على العملية التفاوضية المنتظرة والحل السياسي الموعود!
هذا يصحّ القول، من ناحية شكلية ومجردة طبعاً، إن «العيب» ليس بما حاولته وتحاوله موسكو، بل بمن «أهداها» هذه الفرصة والإمكانية لفعل ذلك، مقدماً لها كل التسهيلات والتنازلات اللازمة، حيث لم يبق لديه سوى الضغط على المعارضة السورية للقبول بـ»الممكن المتاح» الذي تقدمه لها «عاصفة السوخوي» الروسية؟!
أما لسان حال هذه المعارضة فيقول: اللهم نجّنا، ليس من الأسد وبوتين فحسب، بل ومن أوباما وصبره الاستراتيجي أيضاً!