خلّفت أحداث نصف القرن الأخير من تاريخ لبنان آثارها وأهمها ذاك المتعلق بالمكوّن الأرثوذكسي اللبناني.
لم تكن كثافة الوجود الأرثوذكسي الشرق أوسطي في لبنان بل كان الأرثوذكس شعباً ومؤسسات خارج جبل لبنان وبالتحديد في مدن ما كان يعرف بـ “الشام”. تاريخ لبنان لقرون كان سجّل أحداثاً انحصرت بالدروز ثم انساب الموارنة إلى مناطقهم كمزارعين موسميين ليستقروا بعدها ويمتلكوا أراضي فيها. كانت إصلاحات الكنيسة المارونية ابتداء من القرن 17 والبعثات الأوروبية، رافعة لهم لدى الأمراء الدروز ما مكّنهم تدريجياً من الاشترك في القرار السياسي.
للأرثوذكس وضع آخر. أمسكت اليونان بكنيسة أنطاكية منذ العام 1724 حتى العام 1889 حين استعاد الأرثوذكس العرب بمعاونة الروس قيادة كنيستهم.
في لبنان كان الأرثوذكس أقليات في الأرياف باستثناء الكورة. يُحتسب لبعد نظر الروس أن مندوبهم نوفيكوف أثناء التخطيط لنظام المتصرفية، اقترح جعل الكورة قائمقامية. اعترض مندوب فرنسا بحجة أن مذابح 1860 وتهجير السكان لم يطل الكورة. لاقتراح روسيا واعتراض فرنسا أسباب. كيان إداري للأرثوذكس يعزز مكانتهم ووزن روسيا من ورائهم، فيما البديل يحصر الإدارة بالموارنة ويزيد من مكانة فرنسا. إقرار اللجنة الدولية للاقتراح الروسي كان بداية صعود الأرثوذكس ولعبهم دوراً في لبنان.
المحطة الثانية كانت لجنة كينغ – كرين (1919-1920) استفتاء آراء المرشحين للانضمام إلى لبنان الكبير. أكثرية الأرثوذكس، بمن فيهم البطريرك غريغوريوس الرابع، كانت ضد إنشاء لبنان الكبير. لكن ما اعترضوا عليه خدم مصالحهم إذ بإلحاق عكار وطرابلس وبيروت والبقاع والجنوب زادت نسبة الأرثوذكس ومعها مكانتهم في لبنان. غير أن ميولهم السياسية بقيت مخالفة للتيار المسيحي الأوسع إذ حتى الأحداث الأخيرة يصح على الأرثوذكس مقولة زعيم مرجعيون شحادة غلمية عام 1920 “التركي ولا بكركي”. التي كررها بعد 70 عاماً نجاح واكيم معلقاً على مقررات الطائف “حرقنا دين الموارنة”.
لعب الأرثودكس دوراً ثانوياً أثناء الحكم الفرنسي. اختيار أول رئيس للجمهورية، شارل دباس، من صفوفهم فرضه اختلاف الموارنة. ثم إن دباس كان دمشقياً متزوجاً من فرنسية عرف بكفاءته كقاض وليس لاعتبارات أخرى. في فترة الاستقلال من 1943 حتى 1970 التي شهدت ما يزيد على نصف قرن من هيمنة فلسطينية ثم سورية فإيرانية، لعب الأرثوذكس أدواراً بارزة خلف القيادات المارونية الجدّية. حبيب أبو شهلا، شارل مالك، فؤاد بطرس، إيلي سالم، في حقل السياسة، كما برز من صفوفهم رجال فكر وأدب ورجال أعمال ومؤسّسو أحزاب وقياديون فيها، إلا أن المشترك بينهم كانت ولاءاتهم لقوى من خارج حدود لبنان. حتى القيادات الروحية أثناء الحرب الأهلية كانت توالي كل معاد للجبهة اللبنانية باستثناء البطريرك اغناطيوس الرابع هزيم. لا أجد دليلاً على ضمور الوجود الأرثوذكسي في أوساط المقاومة المسيحية أفضل من العودة إلى مؤتمر سيدة البير عام 1976 إذ لم يكن في عداد ما يزيد على 65 شخصية اشتركت في اللقاء إلا شارل مالك وابراهيم نجار. فيما كان الفريق المواجه يعج بشخصيات دينية وسياسية أرثوذكسية من بينهم “المسيحيون الوطنيون” الذين لم يترددوا قي إنكار وتزوير الوقائع لتبرير مجازر ارتكبها الفلسطينيون بحق مدنيين مسيحيين في الدامور التي أودت بحياة 584 مدنياً من نساء وأطفال وشيوخ.
حتى مساهمة الأرثوذكس في الفكر السياسي لم يولي لبنان عناية تذكر. كان للأرثوذكس دور بارز في تطوير أفكار النهضة العربية. من أبرزهم فرح أنطون ونقولا حداد وخليل سعادة وأنطون سعادة وقياديون في أوساط الشيوعيين. لكن لدى دراسة مدققة في أطر هؤلاء الفكرية نجد تركيزاً على شتى نواحي السياسة والفكر، من أقصى اليمين الفاشي إلى أقصى اليسار الشيوعي، من دون الوقوف على فكر سياسي يتعلق بلبنان باستثناء شارل مالك وأسد رستم.
لكن ثورة كبرى ستكشفها الأيام تباعاً. إنها عودة الإبن الضال إلى أحضان أبيه. الانتخابات النيابية الأخيرة أثبتت تصويت الأرثوذكس لأحزاب اليمين اللبناني، خاصة، وبتزايد، إلى القوات اللبنانية. وحتى رجال الدين الأرثوذكس، تراهم اليوم يتمتعون بجرأة فقدوها منذ العصور المسيحية الأولى. البطريرك يوحنا العاشر يندد بـ “الأصولية الإسلامية ونظام الذمة” تعبير حتى البطريرك الشجاع هزيم لم يرقَ إليه. وبموقف لا يقل عنه شجاعة انتقد الأب اثناسيوس شهوان لاهوتياً إعلان البشارة بالمسيح عيداً مشتركاً بين المسيحية والإسلام. هي مواقف لقيادات مسيحية أخرى عبر سوريا ولبنان تعيدنا إلى عصور المسيحية الأولى عبّر عنها يوحنا الذهبي الفم مواجهاً السلطة البيزنطية، “لا أخشى النفي إذ إن المسيحي هو في منفى ما لم يكن بحضرة المسيح، ومصادرة ما أملك حرمتني من ثياب بالية وبعض الكتب، أما الموت فهو ربح لي إذ أكون مع المسيح.
