إقتحام «تل الزعتر» قابله بالمثل في «الدامور» فتكرّس الفرز والإنقسام.. وسعّرت الحرب
تضخّم أعداد سكان مخيم «تل الزعتر» مطلع السبعينات، جرّاء توافد النازحين إليه، حيث وسّعت حركة «فتح» نطاق عملها التنظيمي داخله وانطلاقاً منه، فبات «تل الزعتر» قاعدة لتنظيمها ولكوادرها القيادية في بيروت الشرقية، وهو ما جرى أيضاً مع منظمة الصاعقة، والجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، والجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين، وجبهة التحرير العربية والجبهة الشعبية – القيادة العامة.
وغطى حضور الفصائل الفلسطينية ونشاطات ممثليها على العمل الأهلي داخل المخيم الذي اقتصر عملياً على مساهمات ناشطين من الخارج. فقامت الجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين بتسهيل عمل مؤسسة «عامل» اللبنانية داخل المخيم. وبعد سنة 1973، شارك طلبة من الجامعة الأميركية في العمل التطوعي بترتيب من حركة «فتح». كما شهد «تل الزعتر» حضور متطوعين أجانب، مثل السويدية إيفا شتول التي عملت في مستوصف الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين وبقيت في المخيم حتى إخلاء سكانه والمجازر التي وقعت في 12 آب 1976. كما شهد تل الزعتر نشاطاً مميّزاً لمتطوعين من جمعية الصداقة الفلسطينية الهولندية التي كانت توفد خلال الصيف بين 40 و50 متطوعاً، يقومون بأعمال التنظيف وحفر الملاجئ، ويبيتون في مبنى مدرسة جنين.
في ذلك الحين، كان للأزمة الحكومية اللبنانية في أيار 1973 وتداعياتها، أثرها في مخيم تل الزعتر جرّاء فشل الجيش في صد إنزال إسرائيلي في بيروت قتل خلاله ثلاثة من قادة منظمة التحرير الفلسطينية، وما أعقبه من اشتباكات بين الفصائل الفلسطينية والجيش اللبناني في بيروت. فبعد تعرّضه للقصف المدفعي المباشر، وتطاير «ألواح الزينكو» بسبب تساقط قذائف الجيش على بيوته، أصبح المخيم بؤرة للتعبئة السياسية الناجمة عن حالة الاستقطاب الداخلي التي خلّفتها المواجهة بين الجيش اللبناني والمقاومة الفلسطينية.
وعلى خلفية تصاعد الخطاب التحريضي على الوجود الفلسطيني المسلّح في لبنان من الأحزاب اليمينية (المسيحية)، تضاعف الضرر المنسوب إلى مخيم «تل الزعتر»، جرّاء توسّع القدرات العسكرية للفصائل الفلسطينية فيه وتمدّدها إلى ضاحية النبعة (الشيعية) على مداخل بيروت حتى لو لم تكن ملاصقة للمخيم.
وصارت صورة «تل الزعتر»، في نظر محيطه السكاني (المسيحي)، تعبّر عن «معسكر» لا عن مخيم للاجئين.
وبحلول سنة 1975، أصبح «تل الزعتر» بؤرة نزاعات نجمت عن التقارب بين سكانه وسكان الأحياء القريبة منه في الأعوام التي سبقت الحرب الأهلية، وصار سكان هذه الأحياء، تبعاً لذلك، ينظرون إليه عند مرورهم بقربه باعتباره مصدر قلق ورعب دائمين، وبات المخيم مع مدنييه، قُبيل انفجار الحرب الأهلية سنة 1975، أشبه بجسم غريب مزروع في غير مكانه.
مع بداية الحرب الأهليّة اللبنانيّة زجّ الفلسطينيون بتحالفهم مع الحركة الوطنية اللبنانية أنفسهم في تلك الحرب (1975-1990)، ومع انهيار الدولة اللبنانية واصلت منظمة التحرير الفلسطينية توسيع نفوذها، فاتهمت بتشكيل «دولة داخل دولة».
بدأت إرهاصات نكبة مخيم تل الزعتر مطلع عام 1976، حيث نشبت خلافات بين المليشيات (المسيحية) والفلسطينيين، حيث حصلت خلال هذه الفترة اشتباكات ومعارك بين الجانبين.
في 13 نيسان قُتل 30 فلسطينيّا من مخيم «تل الزعتر» كانوا يستقلون حافلة في عين الرمانة قرب بيروت على يد عناصر من قوات «الكتائب»، ما شكّل الشرارة الأولى للحرب الأهلية اللبنانية العنيفة والطويلة. وكان الحصار الذي تعرّض له مخيم «تل الزعتر» ومن ثم إقتحامه أحد إفرازات الحرب الأهلية المستعرّة.
في بداية سنة 1976، قامت ميليشيات حزبَي الكتائب والأحرار وحلفاؤها بتنفيذ سياسة إخلاء القطاع الشرقي والشمالي من بيروت من الفلسطينيين والمسلمين، فهاجمت منطقة «المسلخ – الكرنتينا» وسيطرت عليها، ثم مخيمي «ضبية» و«جسر الباشا» ومنطقة «النبعة» وأخيراً مخيم «تل الزعتر».
ففي أوائل كانون الثاني1976، تعرّض مخيم «تل الزعتر» لحصار تمويني اشتدّ على مدى الأشهر السبعة التالية. وعندما أخفق هذا الحصار في تحقيق أغراضه الكاملة، قامت هذه الأحزاب في 22 حزيران، بمحاصرة السكان بالكامل ودمّرت جميع مصادر المياه وشنّت هجوماً استخدمت فيه الأسلحة الثقيلة.
وما لبث أن تحوّل الحصار على المخيم إلى هجوم عسكري، بعد مضي حوالي 10 أيام من دخول الجيش السوري الحرب بقيادة حافظ الأسد إلى جانب الأحزاب (المسيحية)، فبدأ الهجوم، وتعرّض «تل الزعتر» لقصف مدفعي عنيف، حيث وصل عدد القذائف الصاروخية في نهاية اليوم الأول اللهجوم إلى نحو 8.000 قذيفة، ما أدّى إلى دمار واسع وخسائر جسيمة في بيوت اللاجئين والمرافق والبنى التحتية للمخيم.
وبعد 52 يوماً من المقاومة في المخيم، تم عقد اتفاق بين الفصائل الفلسطينية وحزب الكتائب بواسطة مبعوث جامعة الدول العربية لإجلاء المدنيين. لكن في صباح يوم 12 آب، وهو يوم الإخلاء، ارتكبت مجزرة بحق السكان، فقتل نحو 800 شخص، بالإضافة إلى مقتل أكثر من 3.400 شخص بين 22 حزيران وعشية يوم الإخلاء، عقب ذلك تم جرف المخيم مباشرة، منعاً لإعادة بنائه.
بعد مجزرة «تل الزعتر» وتهجير معظم سكانه إلى غربي بيروت وبلدات سهل البقاع، قررت قيادة حركة «فتح» المضي قُدُماً في إسكان مهجري «تل الزعتر» في بلدة «الدامور» في منطقة الشوف التي هُجّر سكانها في إثر هجوم مقاتلي القوات المشتركة اللبنانية – الفلسطينية في كانون الثاني 1976، وكذلك ارتكبت «القوات المشتركة» مجازر بحق أهالي «الدامور» (المسيحيين) لا تقلّ دموية عن مجزرة «تل الزعتر».
كان دافع ياسر عرفات في اعتماد هذا الخيار اهتمامه بتجميع سكان «تل الزعتر» في مكان واحد، حفاظاً على ديمومة البيئة الاجتماعية التي كانت قائمة بينهم أصلاً في المخيم، وتسهيل عملية تقديم المساعدة لهم.
بعد اتفاق «الطائف» عام 1989 الذي أنهى الحرب الأهلية بتسويات وحمل شعار «العفو عما مضى»، رفضت الدولة اللبنانية إعادة إعمار المخيم، كما رفضت عودة اللاجئين المهجرين إليه.
مما لا شك فيه أن معركة «تل الزعتر» تداخلت فيها مجموعة عوامل محلية وخارجية، بفعل نشوء تحالفات وتقلّبات في موازين القوى والتحالفات الداخلية والخارجية، لا سيما الاتهامات الى وجّهت الى النظام السوري برئاسة حافظ الأسد، بالمساهمة العسكرية (غير المعلنة) بحسم تلك المعركة، بعد إحتدام الخلاف بينه وبين كل من ياسر عرفات وكمال جنبلاط.
ونشير في هذا السياق، أنه وخلال حصار وقصف المخيم، زار وفد من منظمة التحرير الفلسطينية دمشق، وطلب من قيادتها التدخّل لدى القوات المهاجمة للتوقف عن استهدافه. لكن الأسد، الغاضب من كمين طازج كان فَقدَ فيه 74 من جنوده بنيران الفصائل الفلسطينية واليسار اللبناني، زعم أنه لا يعرف بوجود مخيم اسمه تل الزعتر أصلاً، وأنه سمع بمعركة لكنه لم يأخذها بالجديّة الكاملة. طالباً من ضيوفه الفلسطينيين أن يشرحوا له مقدار مأساوية الوضع وخطورته كما يقولون. ولما أنهوا عرضهم قال: «بحكي مع إخواني في القيادة العسكرية حتى نشوف بنقدر نتدخّل أم لا، لأنه هذا شأن لبناني داخلي ونحن لا نتدخّل في أمور من هذا القبيل».
وبعد انتهاء اللقاء كتب أحد أعضاء الوفد في تقريره لقيادة المنظمة: «توقّعوا أن هنالك مذبحة»!!!
ختاماً، عملية التدمير والتهيجير لمخيمات المنطقة (الشرقية) والمناطق الإسلامية فيها، وبالمقابل عملية التدمير والتهجير لبلدات الدامور والسعديات (المسيحية)، كانت تكريساً للفرز الديمغرافي وتقسيم بيروت الى شطرين.
– يتبع: مخيما صبرا وشاتيلا
