Site icon IMLebanon

غبطة البطريرك… فلتكُن زيارتكَ باريس تاريخية

 

لا يحتاج غبطة البطريرك وهو يزور الإليزيه الى نصيحة أو توصية. هو الذي يعِظ ويعرف البئر وغطاه. ولا شك أنه كوَّن ما يكفي من المعلومات والأفكار عن “الرئاسة الممنوعة” وأسماء وعناوين الذين عطلوا الاستحقاق في مهلته الدستورية، ويبتزون بكركي وكل الفرقاء للإفراج عن كرسي الرئاسة المخطوف في مقابل ملئه بأداة لمحور إيران.

ومع أننا أبناء اللحظة وتقتضينا الواقعية السياسية تدبير “الحاضر بالحاضر” حسبما يقال، فيطرحُ البطريرك على مستضيفيه اسمَ مرشح أو المواصفات المنطبقة على أشخاص يمكنهم جذب التوافق لتسهيل الاقتراع، فإن لقاءً على هذا المستوى من الأهمية بين بطريرك الموارنة ورئيس فرنسا يجب أن يتجاوز موضوع إشغال بعبدا بمستحق أو طامح أو تابع أو انتهازي تافه، الى علاقات لبنان التاريخية مع “الأم الحنون” ونظرتها الى مستقبل لبنان. والبحث يجب أن يُخاض حتى ولو كانت قامة ايمانويل ماكرون لا تقارن بشارل ديغول، ولو لم يوحِ في تعاطيه بالملف الرئاسي بأنه أكثر من سمسار يقود خلية يحركها الاسترزاق لدى مالكي طائرات، نزاهتُهم صعبة الإثبات.

لا داعي لتذكير البطريرك بخطابه الشهير في “ثورة 17 تشرين المباركة” وعنوانه “لا تسكتوا”. ولن تدفعه الى الإحباط والتسليم بترهيب “المنظومة الفاسدة” حالُ الانهيار العميم التي يعيشها الشعب اللبناني والإلحاحُ الفرنسي على إنهاء الفراغ. وهو بلا شك سيحوِّل اللقاء مِن تشاور في شأن سياسي عابر، ولو مهم، الى بحث عميق في مستقبل لبنان الدولة والمسيحيين على وجه الخصوص.

لا معنى لزيارة البطريرك الراعي إن لم يُستلهم حضور البطريرك الحويك مؤتمر السلام في باريس في 1919 قبيل إعلان “لبنان الكبير” ودور فرنسا فيه، لتُستخلص من مسار أكثر من مئة عام عِبرٌ ترسم خريطة طريق مستقبلية لحياة كل فئات اللبنانيين. وبعيداً عن آراء الذين يعتبرون ذاك الحدث “غلطة تاريخية” مُحاكِمين التاريخ بمفعول رجعي، فإن وقائع “العيش المشترك” السلمي المستحيل، خصوصاً في السنوات الخمسين الماضية، ستدفع البطريرك حتماً لمطالبة فرنسا بأداء دور تاريخي جديد، يجدد صيغة لبنان عبر “الحياد البطريركي” الناشط الذي يصعب تحقيقه إن لم يؤسَّس نظامٌ سياسي جديد.

نعلم أن هموم “خلية الإليزيه” منحصرة هذه الأيام باسم الرئيس اللبناني العتيد وبما يمكن أن تجنيه فرنسا من عقود تجارية ونفطية في المنطقة ثمناً لخفض جناح الذل لمحور الممانعة، لكن البطريرك سيضع باريس أمام مسؤولياتها بصفتها ذات علاقة تاريخية ومميزة مع لبنان، ولكونها دولة كبرى ساهمت في قراري مجلس الأمن 1559 و1701 المتعلقين باستقلاله وبسط قواه الشرعية على أراضيه، ولأنها تشارك بلحم جنودها الحي في “اليونيفيل”.

لا نحمِّل زيارة البطريرك أكثر مما تستطيع. فهي ما كانت لتكون إن لم تطرح فيها بالعمق أسباب فشل صيغة “لبنان الكبير” ودولته المركزية التي تفككت بنسب متفاوتة وبالتدريج، عبر سلسلة اختبارات بدأت بـ”ميني ثورة” 1958 ووصلت الى أوجها في 1975 لتجرجر جراحها ثم تنازع البقاء بمحاذاة قوة عسكرية رديفة تمتلك استقلالية القرار.

لا نريد هذه الزيارة لتسهيل انتخاب رئيس فحسب، بل نتطلع أيضاً الى أن تكون تاريخية، علَّنا نتمكن من تحويل الانهيار المؤلم الى تأسيس يحمل أملاً ببقاء اللبنانيين في دولة تراعي تنوعهم وترعى اختلافاتهم، فتبقى الخريطة واحدة… ويبقى النشيد.