Site icon IMLebanon

السيادة والاستلاب

 

يُظهر أكثر من استحقاق دستوريّ أنّ الكثير من النخب السياسيّة والإعلاميّة والبرلمانيّة (نواب) في لبنان، تنساق إلى أكثر من توجيه خارجيّ وتعمل بإمرته، والخطر في الأمر، أنّه يتم التعامل مع هذه الظاهرة كأمر طبيعي في الواقع اللبنانيّ. والأخطر ما يقوم به البعض من تبرير هذه الظاهرة، والعمل على تجميلها وتزيينها في الوعي السياسيّ.

 

ولنا في هذا الشأن أكثر من ملاحظة:

1) إنّ فلسفة السيادة تكمن في كونها وعيًا، يُعلي من شأن الذات الوطنيّة، ويقدّس استقلالية القرار الوطنيّ، ما يحول دون أيّ تبعية للخارج أو الخضوع لإرادته. وعليه، عندما تكون الممارسة بهذا المستوى من التبعية للخارج، فهذا يعني أنّ المشكلة ليست سطحية، أو تقتصر على أداء موضعي أو ممارسة يتيمة، بل هي مشكلة بنيويّة وجوهريّة، تمتدّ إلى عمق الوعي والوجدان، ولديها قابليّة التفريخ المستديم لمواقف وممارسات مشابهة وأشدّ سوءاً.

 

2) إنّ الذرائعية السياسيّة، التي يستخدمها البعض لتجميل هذه الممارسة، لن تعدو كونها إمعانًا في تشويه هذا الوعي، وتكريسًا لهذا الانحراف. أي أنّ من يمارس هذا التلبيس السياسيّ، إنّما يدعو إلى إشاعة ثقافة الاستلاب، وتزييف السيادة، والتبعيّة للخارج، لكن مع تبريرات تقلب المفاهيم، وتحرف الحقائق، وفي هذا خطر كبير، ليس فقط على الحاضر السياسيّ، بل على المستقبل الوطني أيضًا.

 

3) إنّ الهبوط بقيمة السيادة، إلى هذا الدّرك، يفسّر ذاك المدى من الاستنسابيّة التي يمارسها البعض في تسييل السيادة، فهو يرفعها مرة، ويضعها أخرى، يُعلي من شأنها في مورد، ويتجاوزها في آخر، لتؤول إلى مجرّد سلعة في سوق المناكفة السياسيّة. وعليه، هذه ليست سيادة، لأنّه لا تفكيك في السيادة، ولا تجزئة في ممارستها، إذ ليست سيادة عندما نرتضي تدخلًا خارجيًا يخدم مصلحة فئوية، ونرفض أخرى لا مصلحة لنا فيها؛ لأنّ السيادة الحقيقيّة إن وجدت، لا يمكن أن تقصر عن مصاديقها، أو ألّا تبلغ غايتها، ومجرّد أن يحصل، فهذا يعني أنّ ما لدينا هو استلاب مقنّع، يُعمل على إنزاله منزلة السيادة.

 

4) ما يجب الإلفات إليه، أنّ الرضوخ لإرادة خارجيّة في مورد يعني إمكانية حصوله في جميع الموارد، من أحقرها إلى أخطرها. وعليه، ماذا لو أنّ المصلحة الخارجيّة كانت على خلاف المصلحة الوطنيّة؟ وماذا لو تقاطعت الإرادات الخارجيّة على ما يمكن أن يؤدي إلى فتنة داخليّة، أو احتراب داخليّ، أو سوى ذلك؟ فهل هذا يتيم الحصول، أم أنّه كثيرًا ما يحصل، عندما يضحى الوعي السياسيّ مستلَبًا إلى هذا الحد، ونصبح أمام نخب تعاني من رخاوة سياديّة، وعندما يضحى القرار الوطني مستباحًا – وبطريقة فجّة ومهينة – أمام هذا الكمّ من التدخّلات الخارجيّة والمصالح الأجنبيّة.

 

ليس سياديًّا من يسعى إلى الاستثمار السياسيّ الفئويّ لهمجيّة الاحتلال وعدوانه الوحشيّ على بلده وشعبه

 

 

5) هل يمكن أن يكون لدينا دولة، ونحن نفتقر إلى الوعي السياديّ المطلوب، والقدرة على صناعة قرار وطنيّ عصيّ على الإملاءات الخارجيّة؟

عندما يكون الوعي السياسيّ للنخب مُستلَبًا بهذا المستوى الفاضح، هذا يعني أن لا سيادة، وهذا يعني أنّ القرار الوطنيّ يفتقر إلى الاستقلاليّة المطلوبة، وإلى مراعاة المعايير اللازمة، كالمصلحة الوطنيّة والكرامة الوطنيّة…

 

وهنا، هل يمكن أن تقوم دولة، لا تراعي نخبها التي تنتج السلطة فيها، مصالحها الوطنية؟ وأيّ دولة هذه التي تشرّع فيها هذه النخب قرارها الوطنيّ لعبث الخارج وهيمنته؟

إنّ إحدى أهم مقوّمات الدولة وقيامها هي السيادة الحقيقيّة – وليس المزيّفة – أما إن فقدت هذه السيادة لدى نخبها ومسؤوليها، وأصبحت إملاءات الخارج معيارًا حاسمًا في قراراتها وتوجّهاتها، فهذه ليست دولة، بل مستعمرة على شاكلة دولة.

 

والسّؤال الذي يطرح: لماذا يعاني اجتماعنا السياسيّ وغير السياسيّ من هذا المستوى من الأعطاب، أو الخلل، في السيادة وممارستها؟ والجواب يكمن – بشكل أساسيّ – في الفئويّة العنصريّة، وطغيان الطائفيّة، وضعف الهوية الوطنيّة الجامعة، وضمور الشعور بالانتماء المشترك، وخفوت الكرامة الوطنيّة، ومن ثمّ الجنوح إلى منطق الغلبة والاستقواء بالخارج – ولا مانع لدى البعض أن يكون هذا الخارج عدّو الوطن نفسه – بل قد يصل الأمر إلى حدّ تجاوز الخصومة السياسيّة وممارستها ضمن المعايير الوطنيّة، إلى حدّ العداوة وممارستها دون ضوابط وطنيّة أو أخلاقيّة، عندما يصبح بعض الداخل شريكًا مع الخارج – الكيان الإسرائيليّ وعدوانه – في ممارسة العدوان الإعلاميّ، والحرب النفسيّة، في عمل يستغلّ حرية الرأي والإعلام، وضعف الدولة وحضورها، لاستهداف أحد أهم عوامل القوة في مواجهة الكيان الإسرائيليّ واحتلاله، والتي تكمن في المقاومة وبيئتها.

 

إنّ ما ينبغي أن يكون واضحًا هو أنّ من أهمّ تجلّيات السيادة ومعانيها العمل على تحرير تراب الوطن والدفاع عنه. وعندما تبادر المقاومة الشعبيّة إلى ممارسة هذا الدفاع، فهذا يعني أنّ هذه المقاومة هي أجلى تعبيرٍ عن هذه السيادة وحفظها، لأن لا خطر على السيادة الوطنيّة أشدّ من الاحتلال الخارجيّ بمختلف أشكاله وأدواته. ومن هنا يضحي الموقف من الاحتلال وعدوانه على الوطن فيصلًا بين من هو سياديّ، ومُستلَب السّيادة، فليس سياديًّا من يعادي مقاومة شعبه للاحتلال، وليس سياديًّا من يعمل على إضعاف المقاومة وروحها المعنويّة، وينخرط بشكل ممنهج في مختلف أنواع الحروب الإعلاميّة والنفسيّة عليها، وليس سياديًّا من يسعى إلى الاستثمار السياسيّ الفئويّ لهمجيّة الاحتلال وعدوانه الوحشيّ على بلده وشعبه، وليس سياديًّا من لا يعبأ بما يقوم به العدوّ الإسرائيليّ من احتلال وقتل وعدوان، ولا تضيره اعتداءاته المتواصلة على أبناء وطنه. وليس سياديًّا من يراهن على عدّو وطنه، ويتمنّى أن يستبيح باقي المكوّنات الشريكة له في الوطن، ويرتضي الإمعان فيهم قتلًا وتنكيلًا.

 

للسيادة شواهد صدقٍ عليها – كما لها شواهد كذب على من ينافق بها – منها أنّ الوسيلة إليها تكون من سِنخها، ومنها أنّها لا تتخلّف عن فعلها، ومنها أنّها تتعالى على جميع ما يعيقها، وأن لا استنسابيّة فيها. أمّا من تجده يرفع لواءها يومًا، وينكُسه في آخر، مرّة تكون لديه حميدة، وأخرى في نظره خبيثة؛ فليس صادقًا في دعواه السّيادة، ولا جديرًا في أن يؤتمن عليها، وهو وإن نطق بها عشيّةً وظهرًا، وألقى في عشقها نثرًا وشِعرًا، فلن تعدُو كونها لديه: كلمةُ حقّ يُراد بها باطل.

 

أستاذ الفلسفة في الجامعة اللبنانية*