Site icon IMLebanon

لاطائفية “الثنائي” الطائفية

 

 

يعود تأسيس الكيان اللبناني إلى توافقٍ تاريخي رسّخه الآباء المؤسّسون عبر ثقافة سياسيةٍ عميقة تقوم على التعددية الطائفية والتمثيل النسبي في المؤسسات التشريعية والتنفيذية. وفي الفترة الممتدة من عام 1920 إلى 1943، بذل هؤلاء المؤسسون جهوداً استثنائية لبناء دولةٍ تتسع لتنوع طوائفها اجتماعياً وثقافياً، مستندين إلى رؤية متكاملة تشجع التسامح بين مختلف العائلات الروحية، وتؤسس لمجال عام مشترك يحفظ الحريات السياسية والاجتماعية والاقتصادية. كان الهدف الرئيسي من اعتماد نظام المحاصصة النسبية الطائفية هو حماية الطوائف الأقل عدداً من هيمنة الطوائف الأكبر، أو تحالفاتها، وضمان الاستقرار السياسي والاجتماعي لجميع المكوّنات اللبنانية.

 

 

جاء اتفاق الطائف عام 1989 ليؤكد هذه الصيغة ويُرسي مبدأ المناصفة بين المسلمين والمسيحيين في السلطة، مجسّداً بذلك استمرار الرؤية المؤسسية التي قام عليها لبنان، وضامناً للتوازن السياسي والاجتماعي الذي يحمي السلم الأهلي. كما تضمّن الاتفاق بنداً إصلاحياً يتعلق بإلغاء الطائفية السياسية، مرفقاً بسلسلة من الخطوات الدستورية والسياسية التدريجية والمتزامنة، بهدف الوصول إلى تطبيق هذا المبدأ دون فرضه بالقوة. إلا أنّ الشرط الأساسي والمنطقي لتحقيق هذه الإصلاحات كان يتمثل في ترك سلطة اتخاذ القرار وتنفيذ بنود الاتفاق للبنانيين وحدهم، بعيداً عن أي وصاية خارجية. لكن ما حدث كان العكس تماماً، إذ تُركت السلطة فعلياً لحافظ الأسد، الذي تلاعب بالاتفاق وأدخل تعديلات عليه، مما أدى إلى تحوّل مرحلة ما بعد الحرب من مصالحة وطنية إلى فترة احتلال سوري، تلاه لاحقاً النفوذ الإيراني.

 

وكامتدادٍ لهذه المرحلة السابقة، قدم “الثنائي الطائفي” مؤخراً اقتراحاً لقانون انتخابي يقوم على انتخاب أعضاء مجلس النواب على أساس وطني لا طائفي، في توقيت سياسي بالغ الحساسية. مثل هذا الاقتراح لا يُمثّل فقط خروجاً عن المبادئ التأسيسية التي وضعها الآباء المؤسسون، بل يشكل أيضاً تهديداً واضحاً ومباشراً بحكم العدد، ويكشف عن شعور متصاعد بفائض القوة لدى مكونات هذا “الثنائي”. إن هذا الطرح في مثل هذه الظروف يشكل خطراً وجودياً، يهدّد بإعادة البلاد إلى دوامة صراعات داخلية قد تؤدي إلى حروبٍ أهلية جديدة.

 

ولا تقتصر سياسة “الثنائي” على مسألة الانتخابات فقط، بل تتعدّاها إلى ممارسات أخرى ذات طابع تدميري، تتجسد في الخروج المستمر عن الإجماع الوطني، وانتهاك السيادة الوطنية عبر فرض سياسة الأمر الواقع بالقوة. وتمتد هذه الممارسات لتستهدف جوهر التأسيس اللبناني نفسه؛ الطائفية السياسية التي تحكم العلاقة بين الطوائف وفق تمثيل نسبي مدروس بعناية. إن هذه السياسات، بالإضافة إلى كونها تهديداً لمبدأ المناصفة المثبت في اتفاق الطائف، فإنها تهدّد أيضاً الأسس السياسية والثقافية التي زرعها المؤسسون وراعت العلاقات السياسية والاجتماعية بين الطوائف التاريخية اللبنانية طوال عقود.

 

إن إلغاء الطائفية السياسية بالشكل الذي يطرحه “الثنائي”، من دون توافق وطني شامل ومن دون مراعاة للآليات الدستورية الملائمة، يفتح المجال واسعاً أمام هيمنة طائفية جديدة، وإن كانت مستترة، مما يشكّل خطراً على وجود لبنان ذاته. والسؤال الجوهري الذي يطرح نفسه بإلحاح في هذا السياق هو: هل هذا الطرح جدّي فعلًا أم هو مناورة من قبل الثنائي لفرض تعديلات محدّدة يرغب فيها وحلفاؤه على القانون الحالي، في محاولة يائسة لإعادة عقارب الساعة إلى الوراء، خاصة مع التغيّرات الإقليمية والدولية الكبيرة التي يحاول لبنان التاريخي الالتحاق بها، حفاظاً على فرادته واستقلاله في هذه المنطقة من العالم؟