هو اسم عقدةٍ نفسية سياسية جديدة في لبنان هي «بِرّيفوبيَا» مكوّنة من كلمتين: بِرّي فوبيَا. أي «الخوف» من رئيس المجلس النيابي نبيه بِرّي. «الخوف» من نواياه. «الخوف» من مواقفه. «الخوف» من دهائه. «الخوف» من الأرانب المتعدّدة الأشكال والأنواع والألوان التي يستخرجها من أكمامه. من ضحكته. من نظراته. و«الخوف» من التعاون معه، زائد «الخوف» من معاداته. وتتصاعد هذه الفوبيا أكثر ما تتصاعد في مراحل تشكيل الحكومات وفي أوقات اتخاذ القرارات المصيرية في البلد. إلى درجة أن بعض الشخصيات السياسية المخاصِمة تحاول أن تقلّده في أسلوبه الدقيق القابلِ بشيء أو الرافضِ لشيء أو الحيادي تجاه شيء.. من دون جدوى.
تشكيل الحكومة اللبنانية إصطدم بهذه الفوبيا. أشاعوا أن المشكلة الأبرز والأخطر ستكون مع الثنائي الشيعي فيها. لن يتفقوا مع الرئيس المكلّف! سيغضب منهم المجتمع الدولي! سيضعهم الحضن العربي خارج الخدمة ! وفجأة اكتشفوا بعد النقاش الأول مع الرئيس المكلّف أن التعامل الأسهل كان مع الثنائي. إنتقلوا فوراً إلى إحاطة المكلّف بالعنعنات والاتهامات والتنمّر وإشعاره بخيبة الأمل منه. وضغطوا في الإعلام وعبر وسائل التواصل الإجتماعي المَمروضة بألف وباء وأعلنوا أن القاضي سلام لن يشكّل. كل ذلك من أجل بلبلة سلام في مواصلة النقاش مع الثنائي. وحين تعبوا، راحوا يدققون في ما يخطط بري لنيل أيّ من الوزارات؟ وعمّاذا سيتخلّى؟ ولماذا قبِلَ بهذه الوزارة ؟ ولماذا ابتعدَ عن تلك الوزارة ؟ فإذا حصل على وزارة المال، مثلاً، هاجموا مبدأ تخصيص وزارة بطائفة، فإذا أُسقِط في أيديهم، هاجموا شخصية الوزير، وغلّفوا رفضهم بممنوعات أميركية ضد الاسم المطروح، ليست موجودة إلّا في خلفياتهم الفكرية (ولا فكر!)، فإذا أُحبِطَ مسعاهم لجأوا إلى الخطة الثانية (بلَان ب) فطالبوا بوزارات مماثلة يسمّونها سيادية وبوزارات أُخرى خدماتية، وصالوا وجالوا في خطاباتهم ومؤتمراتهم الصحفية محاولين الحصول على موقعيّة متقدمة حصل عليها بِرّي في الحكومة للتساوي معهُ!
يا عَمّي، ينسى هؤلاء للأسف أن نبيه برّي هو رئيس المجلس النيابي وهذا وحده كافٍ ليلتفتَ الرئيس المكلّف إلى عدم الاصطدام به بحكم الرجوع في كل قرارات الحكومة الكبيرة إلى المجلس النيابي، أي إلى رئيسه الذي يمون على كثير من نواب المجلس غير الشيعة. ثمّ نبيه بري في المجلس رئيس لكتلتين نيابيتين هما «كتلة التنمية والتحرير» الراجعة إليه، وكتلة الوفاء للمقاومة.. الراجعة إليه أيضاً بحكم تسليمها الشؤون الداخلية له.
فهل وضعية أي رئيس كتلة نيابية آخَر تشبه وضعية رئيس مجلس النواب نبيه برّي؟ طبعاً لا. لكنّ السياسة اللبنانية مطّاطةُ «المنطق» وشَطّاطةُ اللُّعاب وتسمح دائماً بهذا الجنوح الأرعن إلى ادّعاء القوة والمناعة!
بين يدَي الرئيس نبيه برّي أصوات كل النواب الشيعة. كلّهم دفعة واحدة. فهل بين يدي الدكتور سمير جعجع مثلاً، أصوات كل النواب الموارنة؟ مؤكّد لا، فكيف يطلب التساوي مع الرئيس بري في حصص الحكومة. حصص الموارنة والمسيحيين توزّع على القوى السياسية المسيحية، فإذا كانت مختلفة على الصغيرة والكبيرة فهل على الرئيس المكلّف نواف سلام أن يتجاهل اختلافها ويعاملها كأنها واحدة في الشكل والمضمون فيعطي لتلك « الواحدة» كل الوزارات الراجعة للطائفة؟
ما يُعطى للرئيس نبيه برّي لا يمكن أن يعطى لأحد غيره، بحكم كرسيّه الثانية في النظام اللبناني، وحكم امتلاكه الصوت الشيعي تامّاً بلا نقصان في مجلس النواب.
المطلوب أن يتخلّى رؤساء الكتل النيابية عن التهويل على أي رئيس مكلّف تشكيل الحكومة مقبل، والاعتراف أولاً بأحجامهم الحقيقية لا الافتراضية عبر ذباب التواصل الإجتماعي، وبضرورة أن تتمثّل الكتل بما يتلاءم مع عدد نوابها، لا تمضية الوقت بالتصويب على حصة الثنائي الشيعي التي قيسَت على موقع برّي في التركيبة اللبنانية وعدد النواب لا أكثر!
ومع أن الرئيس برّي لا يتدخل في حصص الطوائف الأخرى لا سلباً ولا إيجاباً، فإن الأحزاب المسيحية شغَل بالها أنّ شيعة «المعارضة» ليسوا ممثّلين بين شيعة الحكومة. وهاجموا سلام على هذا «الخطأ» العظيم وتمنوا تراجعه عن ذلك. وكل ذلك طمَعاً في تحقيق نقطة على الثنائي الشيعي، نقطة سيعتبرونها «انتصاراً مدوّياً» لو حصلت. غير أن حسابات الرئيس المكلّف تَعُدّ الفولَ الذي في المكيول لا الذي في البستان وتبني عليه.
نكرّر: المطلوب التحرّر من بِرّيفوبيا، والوقوف أمام المرآة ساعات إضافية لتحديد الأحجام الدقيقة، ذلك أن كثُراً على ما يبدو ينظرون إلى.. مرآة السيارة التي تُخْطِرُهم بأن المسافات والأحجام فيها غير دقيقة، ورغم ذلك يحاولون!
ولا برهانَ على ما أقول حول «بِرّيفوبيَا» أكبر مما ظهَر بإصرار عند القوات مثلاً، الذين انتشر رئيسهم سمير جعجع ونوّابه معلنين مَنع بري من الحصول على وزارة المال مهدّدين برفض التشكيلة إذا حصل ذلك « واثقين» من تهديدهم، فتبين أن «الحملة» خُلّبيّة ورضوا بالواقع الذي فوق طاقتهم ،متجاهلين وعْدَهُم للناس ووعيدهم لنواف سلام واكتفوا بالقول غير الواقعي أيضاً «أخذنا وزارات أكثر مما أخذ الثنائي الشيعي مجتمِعاً»…
للّه درّك يا نبيه برّي.
