لا جديد في الطروحات التي ازدهر موسمها مؤخراً لتبرير الحفاظ على سلاح “حزب اللّه”. أشياء مكرّرة عن الخطر الإسرائيلي والحاجة إلى “قوة المقاومة”. وأشياء يعاد تدويرها من نوع نفي أي حق للدولة في حصرية السلاح والإمساك بقرار الحرب والسلم، لأنها عاجزة عن ردع العدو الإسرائيلي. كل شيء باستثناء الإشارة إلى الدور الأساسي لسلاح “المقاومة الإسلامية”، وهو الدفاع عن إيران ومشروعها الإقليمي وصراعاتها الاستراتيجية، وضمان الأرجحيّة الشيعيّة في النظام الطائفي اللبناني.
وإلّا ما معنى الحديث عن “المقاومة ومجتمع المقاومة”، لا المجتمع اللبناني، واتهام أكثرية اللبنانيين بالعداء للمقاومة ومجتمعها؟ وهل هناك مشروع وطني لمجتمع من طائفة واحدة؟ ألا يوحي دفاع قادة “الثنائي الشيعي” ورجال الدين الشيعة عن السلاح أن شيعية السلاح هي الورقة الأخيرة للحفاظ عليه؟
الجدل سهل في بحر الأيديولوجيا، حيث الركون إلى الحقائق الافتراضية أو “الحقائق البديلة” كما يسمّيها أنصار الرئيس دونالد ترامب، بدل اتّباع النصيحة الصينية القائلة: “ابحث عن الحقيقة في الوقائع”. والوقائع في لبنان والمنطقة ناطقة. فلا نحن في مرحلة ما قبل “حرب الإسناد” لغزة التي فاخر بإعلانها “حزب اللّه”، وما قادت إليه حرب غزة ولبنان من دمار وضربات قاسية.
ولا سقوط نظام الأسد هو التطوّر الإقليمي المهم الوحيد الذي قادت إليه التحوّلات الإقليمية والدولية المتسارعة. لا انحسار النفوذ الإيراني في المنطقة هو نتاج عامل واحد اسمه العداء لأميركا وإسرائيل.
ولا أميركا التي عاودت التركيز على الشرق الأوسط بعد استراتيجية “المحور” التي بدأها الرئيس باراك أوباما واستمرّت مع ترامب في ولايته الأولى وبالطبع مع الرئيس جو بايدن للاندفاع في الشرق الأقصى حيث الثروة والقوة، هي أميركا التي كان ينافسها الروس والصينيون في الشرق الأوسط نفسه.
إذ تبدو اليوم كأنها القوة الدولية الوحيدة العاملة في المنطقة. فلا معركة إلّا تحت غطائها. ولا محاولات لتسوية توحي بالجدية إلّا التي تنخرط هي فيها.
ذلك أن “حرب الإسناد” كشفت، لا فقط لعبة إيران وتوريط أذرعها في مهمة فاشلة هي تحرير فلسطين بمواجهة إسرائيل وأميركا بل أيضاً عجز “حزب اللّه” عن ردع إسرائيل كما عن حماية لبنان وحماية نفسه وقادته الكبار. وإذا كانت الدولة عاجزة عسكرياً عن حماية لبنان في حرب مع إسرائيل، فإنّ العجز الإيراني والعربي وعجز “حزب اللّه” أكبر.
والطريق إلى المقاومة، ولو قاد إلى مغامرة انتحارية تؤدّي إلى دمار أكبر، مسدود جغرافياً في الجنوب، ومسدود استراتيجياً من الشمال في سوريا، ومسدود عربياً ودولياً، ومسدود وطنياً بقرار الدولة وأكثرية اللبنانيين سحب السلاح خارج الشرعية لضمان الاستثمارات وإعادة إعمار ما تهدّم في “حرب الإسناد”.
ولا مجال بعد اليوم لتوريط لبنان في حرب دائمة، وسط مغادرة الأشقّاء العرب منطق الحرب إلى منطق التنمية وصناعة المستقبل والاستعداد للتسوية على أساس المبادرة العربية للسلام التي خرجت من قمة بيروت عام 2002.
والزمن فات على التذكير بتحرير مزارع شبعا التي كانت حجة استخدمتها الوصايتان السورية والإيرانية، ثم تجاهلتها بعد ضمان الحفاظ على سلاح “حزب اللّه”. فلا عمليات لتحريرها بل تركيز على تحرير فلسطين من دون القدرة عليه، ولكن من أجل المشروع الإقليمي الإيراني. وإذا فشلت الدبلوماسية في إخراج الاحتلال الإسرائيلي من التلال الخمس في الجنوب وسط الدعم الدولي، فإن السلاح الذي تسبّب في عودة الاحتلال بعد تحرير الجنوب في العام 2000 أعجز عن تحرير هذه الأرض من جديد.
المؤرخ تيموتي غارتن آش يتحدث عن “فيزياء للدبلوماسية وكيمياء للسياسة”. وبيروت في حاجة إلى قوة الفيزياء والكيمياء، حيث الدبلوماسية في خدمة السياسة الوطنية التي تختصر كل أنواع القوة.
