بمناسبة عيد الجيش الثمانين، وفي مشهد رمزي جمع بين الذكرى والرسالة، ألقى رئيس الجمهورية اللبنانية العماد جوزاف عون خطاباً تاريخياً من اليرزة، شكّل في مضمونه ومقاصده خارطة طريق لمرحلة جديدة في تاريخ الجمهورية اللبنانية. لم يكن الخطاب مجرد احتفاء بالمؤسسة العسكرية، بل جاء كإعلان سياسي – أمني واضح، يرسي مبادئ السيادة وحصرية السلاح، ويضع المؤسسة العسكرية في قلب المشروع الوطني اللبناني. إنه خطاب الرئيس – القائد، الذي خَبرَ الميدان وذاق مرارات التضحيات، وأَبَى أن يُختصر موقع الرئاسة لديه بالبروتوكول، بل أراده منبراً لحماية الدولة وصون سيادتها.
فقد استهلّ الرئيس جوزاف عون كلمته بتكريم شهداء الجيش، معبّراً عن وفائه العميق لتضحياتهم، ورافضاً كل أشكال النسيان أو المساومة على دمائهم الطاهرة. وذكّر اللبنانيين بأن الجيش اللبناني، بجنوده وجرحاه وشهدائه، هو التجسيد الحيّ لكرامة الوطن وصموده. وأكد أن الجيش لم يكن فقط مؤسسة من مؤسسات الدولة، بل كان الضامن الأوحد لوحدة البلاد واستمراريتها، لا سيما في أحلك الظروف التي مرّت بها البلاد خلال السنوات الأخيرة، من انهيار اقتصادي واهتزاز سياسي وخطر أمني متصاعد.
لقد ثبّت الرئيس عون من خلال خطابه أن الجيش يمثل نسيجاً وطنياً جامعاً، يعكس تعددية لبنان وتنوّعه، ويشكّل نقطة التقاء بين جميع اللبنانيين. فالجيش، بحسب تعبيره، «هو نسيج مصغّر عن الشعب اللبناني بأبهى حالله»، ومن هنا تأتي مشروعية الرهان عليه كضامن للوحدة الوطنية، وكحائط صدّ في وجه مشاريع الفوضى والانقسام.
وفي القسم الأهم من خطابه، شدّد الرئيس جوزاف عون على ضرورة بسط سلطة الدولة اللبنانية على كامل أراضيها، وعلى أن حصرية السلاح بيد الجيش والقوى الأمنية الرسمية هي المدخل الطبيعي لاستعادة هيبة الدولة وثقة المجتمع الدّولي. وفي هذا الإطار، دعا الرئيس كافة القوى السياسية، من مجلس الوزراء والمجلس الأعلى للدفاع إلى مجلس النواب، إلى اغتنام الفرصة التاريخية لتكريس هذا المبدأ الدستوري، الذي يشكّل حجر الزاوية في أي مشروع لبناء الدولة.
إنّ تأكيد الرئيس عون على سحب السلاح غير الشرعي، بما في ذلك سلاح حزب الله، وتسليمه إلى الجيش اللبناني، يشكّل تحوّلاً نوعياً في الخطاب السياسي الرسمي، ويعكس إرادة واضحة في الانتقال من مرحلة الدولة الملتبسة السيادة، إلى مرحلة الدولة المتماسكة، القادرة على احتكار العنف المشروع، وبسط سيادتها على الأرض والسلاح والقرار.
كما كشف الرئيس عون في خطابه عن تفاصيل المفاوضات الجارية مع الجانب الأميركي، والتي تتم بالتنسيق مع رئيسي الحكومة ومجلس النواب. حيث تضمنت الورقة اللبنانية المعدّلة مجموعة من البنود السيادية التي تعبّر عن رؤية الدولة اللبنانية لدور الجيش وحده في الدفاع عن السيادة الوطنية. ومن أبرز هذه البنود: وقف فوري وشامل للعمليات العسكرية الإسرائيلية، انسحاب إسرائيل خلف الحدود الدولية المعترف بها، إطلاق سراح الأسرى اللبنانيين، دعم الجيش والقوى الأمنية مالياً وتقنياً، وإقامة مؤتمر دولي لإعادة إعمار لبنان.
كما طالبت الدولة اللبنانية برعاية أميركية – دولية لعملية ترسيم الحدود البرية والبحرية مع الشقيقة سوريا، ومعالجة ملف النزوح السوري، ومكافحة التهريب، لا سيما تهريب المخدرات، كشرط أساسي لاستقرار البلاد. وقد نوّه الرئيس عون بالدور الإيجابي الذي تلعبه المملكة العربية السعودية في هذا المسار، من خلال مبادرتها لترسيم الحدود الشرقية والشمالية للبنان، وإعادة إدماج بيروت في عمقها العربي.
كذلك، في مشهد مؤثر، استحضر الرئيس عون بطولة الشهيد المقدم محمد فرحات، الذي واجه المحتل الإسرائيلي وجهاً لوجه، قبل أن يرتقي شهيداً بقصف جوي غادر. وقال إن هذا الشهيد هو رمز لكل جندي لبناني اختار الكرامة على المساومة، والسيادة على الخضوع، والوطن على الذات. وأعلن أن الجيش اللبناني أُوكِلَت إليه مهمة تطبيق وقف إطلاق النار في الجنوب، وقد نجح بالفعل في بسط سلطته على مناطق واسعة من جنوب الليطاني، وجمع الأسلحة غير الشرعية، رغم محدودية الإمكانات، مما يدلّ على الجدّية والاحترافية التي يتمتع بها الجيش الوطني.
وأشار إلى أن المؤسسة العسكرية تسعى حالياً إلى تطويع أكثر من 4500 جندي إضافي، لتأمين التغطية الأمنية اللازمة في الجنوب وسائر المناطق، مؤكداً على الدعم الشعبي الواسع الذي تلقاه هذه الخطوات من أبناء الجنوب، الذين أثبتوا مجدّداً أنهم جنود في الميدان وشركاء في السيادة.
وقد جاء خطاب الرئيس جوزاف عون ليؤكد أن الرهان على الخارج، أو على السلاح غير الشرعي، لم ولن يحقق للبنان سوى المزيد من الانقسامات والخسائر. فالردّ على الاعتداءات لا يكون بالخروج على مؤسسات الدولة، بل بتحصين هذه المؤسسات، وفي طليعتها الجيش اللبناني. وهو ما لخّصه الرئيس بعبارته اللافتة: «لا، ليس أضمن من سلاح الجيش بوجه العدوان… فلْنحتمِ جميعاً خلف الجيش».
إنه خطاب دولة بكل ما للكلمة من معنى، خطاب يتبنّى خيار الدولة الواحدة، ذات القرار الواحد، والسلاح الواحد، والمؤسسة الواحدة.
وبالختام، يمثّل خطاب الرئيس جوزاف عون في اليرزة، لحظة فارقة في تاريخ الجمهورية اللبنانية، إذ جاء متزامناً مع احتفال الجيش اللبناني بعيده، وفي ظل عهد رئاسي جديد يُبشّر بعودة هيبة الدولة وسيادتها. وقد عبّر الخطاب بوضوح عن رؤية متكاملة للبنان: دولة قانون ومؤسسات، جيش وطني محترف، سلاح شرعي واحد، وعدالة شاملة لا تستثني أحداً. والكرة اليوم في ملعب مجلس الوزراء في مطلع الأسبوع المقبل، الذي عليه أن يرتقي إلى مستوى التحدّيات، ويستجيب لهذه الفرصة التاريخية الفريدة، لتجنيب لبنان حروب الآخرين ومغامرات الداخل. فبغير التزام حقيقي بنزع السلاح غير الشرعي في مهلة زمنية محدّدة، وبغير دعم فعلي للجيش الوطني، ستبقى الدولة اللّبنانية عرضة للانهيار، وسيبقى الشعب اللبناني أسير أزمات لا تنتهي. فثمة بصيص أمل… ومَن يرعاه هو رئيس مغوار أقسم على الوفاء لشهداء الوطن، ولا ولن يقبل بسلاح في دولته إلّا سلاح الجيش الوطني والقوى الأمنية الشرعية.
