في منتصف العام 1942 تمكن الرئيس الراحل مصطفى النحاس باشا من اقناع زعماء الطوائف اللبنانية في بيروت بأهمية التوافق والاجتماع حول القواسم المشتركة التي توحد في ما بينهم والتي سوف تجبر معارضي استقلال لبنان في دمشق على الرضوخ لإرادة اللبنانيين. قال الرئيس النحاس لمحاوريه المفترضين في دمشق، هل تظنون ان رياض الصلح الذي افنى القسم الأكبر من عمره مدافعاً ومناضلاً من اجل العروبة. هو اقل منكم عروبة، وهل تعتبرون استقلال لبنان التام عن الانتداب، عنصر عداء يستهدفكم، اتفضلون ان يبقى لبنان خاضعاً «للانتداب»؟
لم يتلق الرئيس النحاس باشا اي جواب في ظل صمت المحاورين، فكان الرد عبر الدبلوماسية الخلاقة والواقعية السياسية، في فقرة ما زالت تعتبر حتى اليوم أنموذجا في ممارسة السياسة العقلانية، ورد في البيان الوزاري لحكومة الاستقلال الأولى ما حرفيته: «ان اخواننا في البلاد العربية، لا يريدون للبنان الا ما يريده ابناؤه الأباة الوطنيون، فهم لا يريدونه للاستعمار اليهم ممراً، ونحن لا نريده للاستعمار مستقراً، فنحن وهم اذن نريده وطناً سيداً عزيزاً مستقلاً.
واليوم يطرح الرئيس سعد الحريري مبادرة يُرجى ان تحرك المياه الراكدة في مجرى السياسة اللبنانية.
تستدعي حال الاقتتال والفوضى المحفظة بنا والتي باتت حممها المستعرة تلفح صورة الواقع السياسي اللبناني، فضلا عن قلبه والتي بدأت تتسلل الى نواة النسيج الذي يشد اواصر الانصهار الوطني وخيوط التعايش والتساكن في مشهدية الاتفاق والتلاقي، طرح السؤال المستعجل والملح، كيف نستطيع ابعاد شظايا الاختلاف الاقليمي والنجاة من تبعات وتداعيات هذا الأتون المحرق، وأين ومتى ستتمكن من نزع فتائل نذر الانفجار الكبير الآتي، ما دام ثمة من يصر على ديمومة الالتصاق والتفاعل والتشارك. في حيازة عناصر التوتر الاقليمي، مغلفاً هذا التواصل بعناوين الخير المطلق، ازاء هذا الواقع غير الواقعي، تزداد الحاجة الى ابتداع سبل جديدة في السياسة رجاء الخلاص، يكون عمادها التحرر من الوسائل الكلاسيكية والتخفف من أطر المعالجات التقليدية، لمسائل وأزمات غير تقليدية لا تلتفت الى المنطق، ولا تستند الى مفاعيل الفكر السياسي ولا الى القواعد القانونية الملزمة. وهذا بالضبط ما يسعى الرئيس سعد الحريري الى تحقيقه عبر مبادرته الراهنة.
ازاء ما سبق واستناداً اليه، تبدو اليوم «معركة» الدائرة في لبنان معركة افكار، ادواتها الايديولوجيا لتبرير ما لا يبرر ولاقرار ما لا يقره عقل ولا يكدسه دستور ولا قانون، وهذا ما سيبقي السجال العقيم القائم ما بين طرفي الصراع والدائر حول التمسك بمفهوم الدولة ومنطق الدستور، مقابل الاصرار على أولوية المقاومة وثنائية وسائل الدفاع عن الدولة.
هنا وانطلاقاً من هذه النقطة بالذات، يظهر العقل الكلي اي العقل العقلاني، كمنتج للافكار التي تتيح امكانية النقد والمقارنة والمقابلة والتفكيك واعادة التركيب، خلافا للعقل الجزئي، الذي يعد كحاوية ومستودع للمسلمات والمطلقات «المبدأي» المنتجة للاصنام الفكرية الثابتة المتعنتة والمأسورة.
ان التحرر من المبدئيات الثابتة والحامدة، يتيح الوصول الى تحقيق «المستحيل» في السياسة، حينما تصطدم المبدئيات الثابتة بجدار الانسداد في قسرى البحث عن الحلول المستعصية، حيث ان في كل فكرة مبدئية مساحة تشغلها منطقة رمادية محايدة تسمح بمباشرة فعل عزل عناصر التوتير والاختلاف والابقاء على عناصر التوافق والتواصل، فتتلبس الفكرة رداء الكائن الحي فتسير بالدفع الذاتي وبالاستقلال. عن مطلقها الاصلي، بحيث تفيض حلولا للمسائل الشائكة والممانعة عن الحل، لاكتفائها بذاتها ولاستنادها الى الفطرة عبر ادراك الذات. فتدنو من واقع السيرورة البسيطة، المواصيلة الى حتمية الصيرورة المتحررة والمتخفف من امر عقدة القداسة والتأليه والمطلقات الغيبية. فالشكل الذي يؤدي الى تبيان حقيقة الخير النسبي والشر النسبي، بالرجوع، حيث بالامكان الاستفادة من وعي وادراك مركزية مفهومي الزمان والمكان وقوانينهما الطبيعية. فضلاً عن شرائع الوضعية، التي تشكل الوعاء الذي تسكن فيه قيم الخير والشر العادية المحقة.
ان هذين «الرجوع» والاستدراك، هما ما يميزا خصائص الفكر السياسي وتاريخ العلاقات الدولية، وقواعد القانون الدولي العام، وقواعد الاستاد التي تنبثق عن الدساتير والقوانين الوطنية، التي تظهر صورة التفاعل والتعاون ما بين الدول، بالشكل الذي يسمح بعدم استفحال الخلافات المحتملة.
يتيح الالتزام بقواعد القانون الدولي والشرعية الدولية، تبيان طبيعة الفعل السياسي والمسؤولية عنه، عبر تحديد الركن المعنوي للعقل السياسي المعبر عليه بالارادة، وفرز الركن المادي واظهاره عند تحوله الى فعل قائم ومحقق، فالشرعية الدولية هي الجهة الوحيدة التي تملك صلاحية، اثبات الفعل والمسؤولية الناتجة عنه وتحديد الرابطة السببية ما بين الفعل والنتيجة النهائية.
يفرض اعتماد السياسة وممارستها بشكل واع غير متخيل، اعتبارها مفهوماً سامياً، اطاره الخير العام، ويفرض بالتالي الكف عن اعتبار الشرعية الدولية. تفسيراً للطرف الاقوى يعكس اختلال موازين القوى، ولأن الأمر كذلك لا يجوز ان تتجاهل فداحة الخسارة المحققة، الناجمة عن التخلي الطوعي عن المظلة التي تحمي سيادة الدول وشعوبها، فالتقيد بما تفرضه السياسة الواقعية، هو العاصم الوحيد الذي يصون النظام العالمي ويحول دون تفشي الفوضى العارمة.
ينبغي على اطراف الأزمة اللبنانية، وعلى الأخص الذين يشلون الدولة اللبنانية اغتنام فرصة النجاة المتاحة عبر استقلال واستثمار عناصر الاستقرار وطرح عناصر التوتير جانباً، والمباشرة بالتفاوض والمداولة والحلول التي تتمخض عن مساحة المنطقة الرمادية، التي تحد وتخفف غلواء المواقف المبدئية الجامدة، التي لا تلتفت الى المتاح والممكن، ولا تتعاطى مع الطموح الجامح، في مقابل الامكانيات المحلية، فهل سنتمكن في قابل الايام توقع صحوة تعيد الحياة الى مفاصل الدولة والثقة بين ابناء الوطن الواحد ومآلهم المشترك؟ وخصوصاً الى الشعب الذي آمن بمبادئ حركة الرابع عشر من آذار.
() كاتب سياسي لبناني