IMLebanon

رفيق الحريري… كما تخيّله باسم السبع [5]

 

 

 

لا يزال الحديثُ هنا يتناولُ كتابَ باسم السبع الجديد، «لبنان في ظِلال جهنّم: من اتّفاق الطائف إلى اغتيال الحريري»، الصادر عن شركة المطبوعات للتوزيع والنشر في بيروت. ينفي السبع اتّهام «أوتوستراد السلام» وأنّ مخطّط الحريري كان مشبوهاً، معتمِداً على تحقيق السلام مع إسرائيل. وينفي تهمة نيّة الانقضاض على المقاومة.

 

لكنّ سرديّة الكتاب تؤكّد ما ينفيه السبع، كما أنّ جماعة الحريري كانوا صريحين حول وقْع خبر اغتيال رابين على بلاط الحريري. ويعترف السبع بأنّ الحريري كان يلجأ إلى «التدخّل السوري» (ص، 111) في تفاصيل الحياة السياسيّة لتحقيق مآربه والفوز على خصومه. إنّ الجمع بين تمويل المخابرات السوريّة من جَيبه الخاص وهدف السيادة اللّبنانيّة مستحيل بالرغم من غزارة الحبر المُسيَّل في أدب مراثي رفيق الحريري.

 

لكنْ كيف يحقّ للّبنانيّين الاعتراض على خطط الحريري في بيروت، فيما السبع كان شاهداً عندما أبدى الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم إعجابه بخطط الحريري في بيروت؟

 

هل هناك مرجع أخلاقي ومعرفي أرفع من محمد بن راشد، باعتراف معظم الصحافيّين العرب الذين يتنافسون على نَيل الجوائز الإعلاميّة منه لِما عُرف عنه من تحقيق الحرّيات الصحافيّة في بلاده؟ ويجيب الحريري على إطراء حاكم دبي بالمقارنة بين لبنان ودبي مُفضِّلاً الأخيرة بسبب سهولة تمرير المشاريع في بلد لا ديمقراطيّة فيه.

 

الحريري كان يحلم بتحويل لبنان إلى دولة استبداديّة كي يسهُل له تحقيق أحلامه الكبرى والصغرى. ويُشركنا السبع في بعض الأحاديث التي تبادلها مع صديقه الحميم رفيق الحريري. تجد السبع يقول لصديقه (مُصارِحاً): «أنتَ تطرد الجرذان والخراب من بيروت وتقوم مقام الأمير فخر الدين المعني الذي نقل العمارة الإيطاليّة إلى جبل لبنان. أنتَ تريدُ أن ترى في لبنان والعاصمة ما شاهدتَ من بنيان وطرقات ومعالم عمرانيّة في العالم» (ص، 116). تقرأ ذلك وتتذكّر ما كان صائب سلام يقولُه عن الصداقة الحقّة.

 

يعترف السبع، وبِزهو، أنّ الحريري كان يرشو قادة النظام الأمني اللّبناني-السوري فيقول إنّهم حاربوا الحريري «على الرغم من التقديمات الشخصيّة والعائليّة التي أغدقها على رموز تلك الإدارة»

 

ليس صحيحاً أنّ الحريري لم يكن يلحَظ في مشاريعه مصالحَ الفقراء وذوي الدخل المحدود. ليس صحيحاً أنّه كان فقط يخطّط لبناء ما يَسرُّ الأثرياء في لبنان والمنطقة. لقد كان الرجل يريد إنشاء مشروع سياحي ضخم على تلّة الـ«إيدن روك» يتضمّن فندقاً ونادياً لليخوت (ص، 120).

 

ومن المعروف أنّ اليخوت باتت في متناول جميع أفراد الطبقات الاجتماعيّة في لبنان. لو أنّ العمرَ امتدَّ برفيق الحريري لكان ذلك المشروع يعجّ بيخوت الشعب اللّبناني المزدهر والمُنتشي بالسياسات الماليّة التي دشّنها الحريري وأكملها عنه مندوبه رياض سلامة في مصرف لبنان. وعلى طريقة التطهير العِرقي الذي يريده ترامب في غزة، حَلم الحريري بـ«إخلاء» السكّان في كلّ منطقة الجناح الرملي.

 

عندها فقط كان يمكن، حسب الحريري، إقامة بيروت «حضاريّة» وضاحية «خالية من البؤس» (بعد إخلاء سكّانها؟). والسبع لا ينفي المصلحة الخاصّة للحريري من خلال كلّ هذه المشاريع بسبب «الأراضي التي اشتراها في المنارة والروشة والرملة البيضاء والأوزاعي».

 

ومثل كلّ الشيعة المنضوين في مشروع الحريري-السعودي، يجاهر السبع بآراء مُهينة لأبناء طائفته ولمناطق سَكَنهم. الضاحية (التي كان نائباً عنها في زمن السيطرة السوريّة) هي بالنسبة إليه مجرّد: «الفوضى والضجيج والفلتان الاجتماعي… الباطنية والخارجين عن القانون… نظام حياة مرهون بالقلق الأبدي… مافيا الفوضى ومافيا الفلتان الاجتماعي… حتى مافيا المخدّرات» (ص، 124).

 

والطريف أنّ السبع يربط الضاحية بالرشاوى، كأنّ رشاوى الضاحية كانت، أو لا تزال، على مستوى الرشاوى التي أدخلها رفيق الحريري إلى الحياة السياسيّة اللّبنانيّة. يذكر جادة هادي نصرالله فيقول عنه: «نجل الأمين العام لحزب الله السيّد حسن نصرالله الذي قضى في مواجهة مع القوّات الإسرائيليّة في الجنوب» (ص، 134).

 

ينقل عن الحريري تأكيده لمحمد مهدي شمس الدين أنّه لا يعادي الشيعة (ص، 136)، لكنّ كلامه عن الشيعة مع البطريرك صفير، حسب محاضر الاجتماعات التي نشرها أنطوان سعد، تثبت عكس ذلك.

 

والحريريّة كانت أوّل زعامة سُنيّة غذّت التوتّر والصراع المذهبي في لبنان. ويتحدّث بإعجاب عن محمد مهدي شمس الدين، لكنّه يضيف «ترجم الحريري هذه العلاقات في مجالات دعْم إنساني واجتماعي للمؤسّسات التي ترعاها القيادات الروحيّة، بينها مساعدات قمتُ بتسليمها إلى الوقْف الجعفري في برج البراجنة» (ص، 137). الرشاوى هي المساعدات فقط عندما تصدر عن جَيب رفيق الحريري.

 

يتحدّث عن حماس رفيق الحريري للتمديد لإلياس الهراوي، لكنْ ليس لأنّ رئيس الجمهوريّة كان آنذاك يتلقّى معونة ماليّة شهريّة من الحريري، بل لأنّ الهراوي كان بالنسبة إليه عنوان الإصلاح والنزاهة والكفاءة والعِلم والمعرفة (يذكر مدى خشية الحريري من فوز إميل لحّود).

 

حافظ الأسد أعطى أمر العمليّات بالتمديد للهراوي والجميع مشى. يزعم السبع أنّه عارض التمديد لكنّه لم يُعلن ذلك، لكنْ صارح الحريري بذلك في جلسة خاصّة. طلب الحريري من المُعترِض إعداد خطاب المناشدة للهراوي قائلاً: «المتنبّي بيشتغل عندك. خليه يعملنا هالخدمة» (ص، 140). لكنْ، ولأنّ السبع يستشهد بالخطاب الذي أعدّه، كان من الأفضل له، من باب التواضع المصطنَع، لو أنّه لم يذكر إشادة الحريري ببلاغته وتشبيهها ببلاغة المتنبّي.

 

تُدرك كم أنّ المجموعة الحريرية كانت تكره إميل لحّود. لكنّهم لا يستطيعون النَّيل منه في المسائل الوطنية أو الماليّة. لا يمكن لهم التشكيك في نزاهته فيسْخرون منه صبيانيّاً، على طريقة ديفيد هيل في كتابه الضحل، بسبب حُبّه لرياضة السباحة وسُمرته المُتأتية. لا يجد السبع غضاضة من السُّخرية من عضلاته (ص، 143) كأنّ اللّياقة البدنيّة هي من المذمّات. هل السبع يرى أنّ السُّمنة والترهّل وإهمال الرياضة والصحّة هي من علامات الرجولة؟ بالرغم من ذلك، يقول اليوم إنّه كان من المتحمّسين لانتخاب لحّود.

 

غريب كيف أنّه في حينه كان متحمّساً لكلّ مواقف النظام السوري وقراراته. أصبح معارِضاً لهذه المواقف بعد مرور الوقت، حين زال الجوّ الضاغط وزالت المغريات النيابيّة والوزاريّة. هذه مثل بطولات اللّبنانيّين ضدّ العهد العثماني: انتظَروا عقوداً بعد سقوط الإمبراطوريّة العثمانيّة كي يختلِقوا سردية حرب عصابات ضدّها، من جبل لبنان، في فيلم الرحابنة «سفر برلك».

 

يعترف السبع، وبزهو، أنّ الحريري كان يرشو قادة النظام الأمني اللّبناني-السوري فيقول إنّهم حاربوا الحريري «على الرغم من التقديمات الشخصيّة والعائليّة التي أغدقها على رموز تلك الإدارة» (ص، 145).

 

أي إنّ السبع لا يفهم كيف أنّ المال (الرشاوى، بصريح العبارة) لم يفعل فعله في تلك الحالة. والسبع الذي يُعلِمنا أنّه كان معارِضاً لسيطرة النظام السوري، يعترف بأنّه كان وراء صياغة عبارة «من لبنان إلى حافظ الأسد، عربون وفاء وتقدير» (ص، 147) المنقوشة على نصب لباسل الأسد في الضاحية الجنوبيّة.

 

هل هو يعترف هنا أنّه كان يكتب ويقول ما لم يكن مؤمناً به، أي إنّه كان يكذب على الشعب اللّبناني الذي كان ينتخبه في مجلس النواب، وطبعاً بتزكية وموافقة من النظام السوري عينه؟ يرى السبع أنّ حُكم لحّود كان معادياً لرفيق الحريري منذ خطاب القسَم، ربّما لأنّ رفيق عدّ كلامه ضدّ الفساد على أنّه إهانة شخصيّة له. ومثل الحريري، عارض السبع لحّود منذ خطاب القسم الذي أزعجه بدَوره، بالرغم من حماسه السابق له.

 

يتحدّث السبع بكامل الصراحة عن إعداد معركة الحريري الانتخابيّة في عام 2000 وكيف أنّ رفيق استعان بغازي كنعان الذي شكّل تغطية له في منطقة البقاع «وشاركه شخصيّاً في زيارة بلدة الخيارة» (ص، 157).

 

أي إنّ الحريري يستعين في معاركه الانتخابيّة بالمخابرات السوريّة في الوقت الذي يتّهم فيه إميل لحود (الذي وحْده تجرّأ على طرد غازي كنعان من لبنان) بأنّه كان صنيعة سوريّة. ونجاح الحريري الباهر في انتخابات 2000، ضدّ النزيه سليم الحص، كان بسبب صناعة قانون انتخابات خاصّ به لضمان فوزه ضدّ كلّ خصومه. غازي كنعان صمّمَ القانون له. يقول السبع إنّه نصح الحريري بالعزوف عن رئاسة الحكومة، ويستشهد بخطاب تبجيل وتملّق منه للحريري في مجلس النواب (ص، 161).

 

يتحدّث السبع كثيراً عن عبد الحليم خدّام الذي لم يترك ثريّاً لبنانيّاً واحداً إلّا وابتزّه ماليّاً، خصوصاً إذا كان الثريّ ذا طموح سياسي. وعندما أبعدَ بشّار الأسد خدّام عن دائرة الحُكم الضيّقة، اكتشف خدّام حُبَّ الديمقراطيّة، هذا الذي كان رفيقَ حافظ الأسد في سنوات المجازر والقمع والتنكيل والتعذيب والتدخّل العسكري السوري في لبنان. خدّام، مثله مثل السياسيّين والقساوسة الذين يكتشفون محبّة الله وراء القضبان. نصحَ المُحبُّ الجديد للديمقراطيّة الحريري بالابتعاد عن السلطة. لكنّ الحريري أجابه بالاتّكال على الله.

 

ليس هناك ما يستفزّني في الحديث عن رفيق الحريري أكثر من اختلاق سيرة نضال عنه، روَّج لها كاتِب بلاطه، غسان شربل. قِصص وروايات عن رفْقة الحريري لوديع حدّاد وكيف أنّه كان يُعين التنظيم بالسرّ، وأضاف السبع قصّة جديدة أنّ الحريري كان مكلّفاً بنقل السلاح إلى أوروبا (ص، 167). أستطيع بما أَعلمه، وبما صرّح به الحريري نفسه في مقابلة مع زاهي وهبي، أن أنفي نفياً قاطعاً كلّ هذه القصص والأباطيل.

 

والمناضلة ليلى خالد أضافت إلى هذه الأساطير (من على شاشة «المستقبل») عندما تحدّثت عن كلمة سرّ «سندويش اللّبنة» التي ذكَرها أمامها الحريري قبل وفاته. خالد قالت إنّ معرفته بكلمة السرّ تعني أنّه كان مُشارِكاً. لا، لم يكن مشارِكاً. كان في السعوديّة. وسألتُ رفاقاً في تنظيم وديع حدّاد وأكّدوا أنّ الجواب سهل.

 

كان الحريري شديد الاهتمام بتجارب مناضلي التنظيم في صيدا، وكان يستمع لقصصهم، ومنهم علِم بقصّة «سندويش اللّبنة». والحريري لم يساعد في إطفاء سيارة وديع حداد في أوائل السبعينيّات لأنّه كان في السعودية.

 

ثم لنحسم المسألة من فم رفيق الحريري: هو قال إنّه غيّرَ كلّ قناعاته ومواقفه السياسيّة بمجرّد أن وصل إلى السعودية في عام 1964، وأنّه انفصل عن المحور الذي كان ينتمي إليه وآمن بموقف النظام السعودي ومحوره مذّاك. فما فائدة كلّ هذه القصص، والذين يعلمون حقّ المعرفة يعلمون أنّ هذه أكاذيب فقط؟ ما الهدف من محاولة اختلاق تاريخ يساري متطرِّف للحريري؟ الجواب واضح. بعد اغتيال الحريري (لأنّ القصص لم تُروَ في حياة الحريري) أراد أتباعُه جعلَه مقاوِماً فقط لإحراج المقاومين الحقيقيّين. أرادوا جعله نِدّاً لنصرالله في المقاومة.

(يتبع)