من الصعب تخيّل أن ستّة أشهر مرّت منذ بدء العهد الجديد، ومعه الحكومة. كأنّه شعور منذ زمن بعيد. احتفاليّات صادقة، لا تبغى تسليف من وصل إلى السلطة دينًا معنويًا. أمل بمستقبل واعد، ليس مستندًا إلى أحلام وردية ولا إلى أوهام ما بدا أنه لحظة انتصار. بل قناعة موضوعيّة بأن ثلاثة معطيات تسمح لنا، ولأول لحظة منذ عشرين عامًا، بأن نطمح إلى ما هو أفضل بكثير مما نحن عليه: هزيمة “حزب الله” في الحرب مع إسرائيل، سقوط نظام الأسد في سوريا، ووصول العماد جوزاف عون إلى رئاسة الجمهورية والقاضي نواف سلام إلى رئاسة الحكومة. هذا الثلاثي الذي بدا ذهبيًا، بحكم تغطيته شبه العجائبية لجميع مفاصل انهيار الدولة في لبنان، أتاح للحكم الجديد في لبنان فرصة تاريخيّة للانتقال السريع بلبنان من مكان إلى آخر. بعد ستّة أشهر من التجربة، أقلّ ما يمكن أن يقال – باللبناني الدارج – هو “إنّو مش ماشي الحال”.
“مش ماشي الحال” على كافة المستويات. من إدارة السير في طرقات العاصمة إلى الملف الجيو – استراتيجي المتعلّق بسلاح “حزب الله”، وما بينهما عشرات الملفات، على رأسها الملف الاقتصادي – المصرفي. لنبدأ من الملف الأساسي، أي سلاح “حزب الله”، ليس فقط بسبب أهميّته القائمة بحدّ ذاتها، بل لأن جزءًا أساسيًا من الملفات الأخرى مرتبط ارتباطًا وثيقًا به، كالانخراط الدولي المالي والاستثماري في لبنان. لم يكن أحد يتوقّع أن ملف السلاح برمّته سيحلّ خلال ستّة أشهر. مسألة حلّ سلاح التنظيمات الميليشياوية في مختلف أنحاء العالم لطالما استغرق سنوات، حتى بعد البت به على مستوى الاتفاق السياسي. لكن الوضع في لبنان مختلف تمامًا. الملف لا يتقدّم ببطء، بل إنّه يتراجع إلى الوراء. وكل لحظة تمرّ هي لصالح تمسّك الميليشيا بسلاحها، وللانتقاص من هيبة الدولة. أركان السلطة يردّدون تعابير كانت لتكون ذات جدوى منذ عشر سنوات أو أكثر، مثل “حصر السلاح”. لا خطوات عملية، لا خطّة، لا رؤية. لا جدول زمني. لا حسم، حتى في التعابير والمنطق المستعمل على المستوى الرسمي. حتى “الحوار” الذي تحوم حوله شكلًا ومضمونًا إشكاليات كثيرة، لم يبدأ بشكل رسمي. أما الحكومة فاستغلّت إمساك رئيس الجمهورية بملف التفاوض حول السلاح، وتخلّت بالكامل عن مسؤولياتها تجاه الموضوع برمّته (خلافًا للطائف)، ما عدا بعض التصاريح التي لا تعني شيئًا حقيقيًا بالمعنى السياسي (حزب الله نفسه مع “حصر السلاح”).
“حزب الله” استعاد جزءًا من عافيته المعنوية، وانتقل من “الزاوية” ومرحلة الصدمة إلى مرحلة “إعادة الترتيب”. وهو الوحيد الذي يبدو أن لديه خطّة ما للمضي قدمًا، فيما الدولة تبدو وكأنها ترغب في أن يحلّ المشكل نفسه بنفسه. نستيقظ صباحًا، فنفاجأ جميعًا بإعلان “حزب الله” قبوله بنزع سلاحه (بدل نزعه للأرواح). النافذة المتاحة (window of opportunity) تضيق يومًا بعد يوم، وعلى الأرجح لم يبقَ منها إلا أشهر (إن لم نقل أسابيع) قليلة.
عطفًا على ما ورد، يبدو البلد كلّه وكأنه معلّق بانتظار حلّ ملف السلاح. لا يمكنه إلا أن يكون كذلك ليس بسبب معضلات تحالف المافيا والميليشيا الذي كان يحكم البلاد مدّة عقد ونيّف من الزمن، بل لأن لبنان بات بلدًا مفلسًا. ولا يمكنه أن يستعيد جزءًا من عافيته الاقتصادية من دون إقرار سياسي دولي كبير بالاستثمار المالي فيه، وفق النموذج السوري الماثل أمامنا. وهذا الإقرار ينتظر قرارًا داخليًا بالتصرفّ بالمسألة السيادية. إذًا نحن اليوم ندور في دوامة مفرغة (vicious circle). سوريا استفادت من حوالى عشرين مليار دولار من الاستثمارات الخارجية في غضون ستّة أشهر، فيما لبنان ليس باستطاعته حتى الاستفادة من النهضة الاقتصادية السورية، لأن ذلك بحد ذاته يتطلّب استثمارًا خارجيًا. إذًا لا استثمارات. لا كهرباء. لا بنى تحتية. لا فرص عمل. لا أمل حتى. رسائل الموفدين الدوليين واضحة وضوح الشمس، ولو غلّفوها بتعابير فولكلورية عن “عظمة الشعب اللبناني”. أسوأ ما في الموضوع هو وكأن الدولة اللبنانية لا تريد حتى الاعتراف بهذا الواقع: كلام عن التزام حكومي بإعادة الاعمار (14 مليار دولار!) من دون حتى ذكر أن لا إعمار من دون تسليم آخر قطعة سلاح لدى “الحزب”. ملّف السلاح الفلسطيني قيل رسميًا إنه سيبدأ عمليا في 16 حزيران، إلا أنه لم يبدأ بتاتًا، ولم يصدر من الدولة حتى توضيح. عدنا إلى المربّع الأول: “وين هيي الدولة؟”.
هذا في العناوين “الكبيرة”. أما أكثر ما لفتني في “الملفات الحياتية” فهو كلام وزير الطاقة المحترم جو صدّي عن “سرقة الكهرباء” والبالغة 30% من خسائر القطاع، هو أنّ خلال 6 أشهر لم تعالج الحكومة حتى 10% من هذه الإشكالية. هلّ هذا مرتبط بالسلاح غير الشرعي؟ أو بعقلية الدولة المستضعفة؟ كنا لسنوات نطالب الميليشيا بأن تعترف بوجود دولة، إلى أن وجدنا أنفسنا مضطريّن لمطالبة الدولة نفسها بالاعتراف بوجود دولة. المساحة هنا لا تتّسع لمناقشة كل تجربة العهد والحكومة، ولكن من الصعب إيجاد “إنجاز” واحد جديّ تحقّق خلال ستّة أشهر، إلا في دولة تفتخر بإجراء انتخابات بلديّة! والخطر هنا ليس البطء (“انتظروا، الأمور تأخذ وقتًا”)، بل الشعور الموضوعي بأن الأمور لا تسير أبدًا، بل إنها قريبًا ستبدأ بالسير إلى الوراء.
كل ما ورد أعلاه ليس هدفه أبدًا النيل من مكانة أو “نيات” الرئيسين عون وسلام، بل على العكس تمامًا. لا شك برغبتهما بنقل لبنان إلى مكان أفضل. كما إن آمالنا ما زالت معلّقة على قراراتهما، وشجاعتهما، وإقدامهما، وخططهما. ولا نطلب الكثير ولا العجائب. جلّ ما نريده هو القدرة الفعلية على دعمهما في مسيرة بناء الدولة السيّدة الحديثة في لبنان. مجرّد إحساس بأن هناك دولة تسعى لأن تكون دولة. وإن كان هناك من رؤية أو من خطة توصلنا إلى هناك من دون عجلة أو توتّرات أو صدامات، فلتكن. أوضحوا معالمها التفصيلية للبنانيين وستجدونهم إلى جانبكم. ولكن غياب التوتّرات بحدّ ذاته ليس رؤية ولا خطّة. بل هو طريق أكيد إلى “اللاشيء”. دولة معلّقة بانتظار فرج لن يأتي (لأن المعطيات الإقليمية توفّرت كلها للنجاح)، دولة منسية على قارعة المستقبل الإقليمي السلمي والمزدهر.
للحديث تتمّة، ولكن الأكيد اليوم (وعلى الأرجح هذه قناعتكم أيضًا) “إنو مش ماشي الحال”.
