في إحدى أغرب وأذكى حكايات الأخوين غريم، نجد قصة شاب ساذج لا يعرف الخوف، فينطلق في رحلة «ليتعلّمه». يبيت في المقابر، يواجه الأشباح والهياكل العظمية، ويمرّ بتجارب مرعبة دون أن يهتزّ أو يضطرب. كل ما يواجهه لا يحرّك فيه شيئاً، فهو لا يعرف معنى أن يخاف. لكن حين تسكب عليه زوجته دلواً من الماء البارد المملوء بالأسماك وهو نائم، يصحو مذعوراً ويصرخ: «الآن… الآن أعرف ما هو الخوف!».
قد تبدو الحكاية فكاهية، لكنها تحمل عمقاً رمزياً كبيراً: الإنسان لا يكتمل وعيه إلّا حين يدرك هشاشته. الخوف ليس علامة ضعف، بل أحد شروط الوعي والنضج. وفي هذا المعنى، يمكن أن نقرأ تحوّلات كبرى تمرّ بها اليوم دولٌ لطالما بَدَت وكأنها «لا تعرف الخوف» – في طليعتها إسرائيل وإيران.
إسرائيل وإيران، كيانان بُنيا على فكرة القوة المطلقة، والثقة المفرطة، والقدرة على احتواء أي خطر.
منذ تأسيس إسرائيل، اعتمدت على التفوّق العسكري، الاستخبارات، العدوان، الردع، والضربات الاستباقية، مما جعلها تتوهم انها كيان لا يقهر. بدت كمن لا يعرف الخوف، بل تصنّعه فقط وتزرعه في قلوب أعدائها العرب.
أما إيران، فمنذ الثورة الإسلامية، ربطت بقائها بفكرة التحدّي وتصدير الثورة. راكمت أدوات الحرب غير التقليدية (الميليشيات، الحرب بالوكالة، الصواريخ، والنووي، الخ..) وعاشت في شعور دائم بالقدرة على الصمود مهما كان الثمن.
كلاهما، وبطرق مختلفة، تعامل مع الخوف كشيء يخص «الآخرين». ويقول ضمناً: أنا لا أمسّ، وفوق الخطر والألم والانكسار.
ثم جاء 7 أكتوبر 2023، نقطة الانكسار الرمزي في إسرائيل، فانتقلت من صناعة الخوف إلى تلقّيه. أيقظها 7 اكتوبر بقسوة، وكان بمثابة دلو الماء البارد في قلب الغرفة الدافئة. لم تكن رصاصة، بل اختراقاً كاملاً للمنظومة. أطفال قُتلوا، مستوطنات اخترقت، عائلات خُطفت… حدث زلزل للإحساس العميق بأن «الخوف لا يصيبنا». في تلك اللحظة، ولأول مرة منذ عقود، بدا أن إسرائيل بدأت تشعر بالخوف، الذي جاء من تفاصيل الحياة المباشرة: طفل يقتل، فشل الجيش وفقدان السيطرة. فاختبرت ما كانت تفرضه على الآخرين لعقود. وضاعف الردّ الإيراني هذا الخوف.
ليس الردّ الإسرائيلي العارم والوحشي على غزة فقط، لكن ردّ الفعل الهستيري، والقلق الشعبي، وحالة الإنكار السياسي، كلها مؤشرات على أن الخوف قد تسلل أخيرا إلى عمق الذات الإسرائيلية، وأن الغطرسة القديمة لم تعد كافية لتهدئته.
أما إيران، فمنذ الثورة الإسلامية عام 1979، وهي تُقدّم نفسها كقوة مقاومة لا تُقهر. خاضت حرباً طويلة مع صدام حسين دون ان تنهار، بل خرجت بذهنيّة المنتصر. فتوسعت في العراق وسوريا ولبنان واليمن. تفرض الخوف وتستخدمه للسيطرة على الخارج، وتثبيت نظامها في الداخل، لكنها لا تشعر به.
لكن خلال الشهور الأخيرة، وبخاصة بعد قصف مجمع أصفهان النووي من قبل إسرائيل في عمق الأراضي الإيرانية، بدأ درع الثقة هذا يتصدّع. فإيران التي كانت تتفاخر دائماً بحصانتها، تلقّت ضربة داخل القلب، دون أن تقدر على ردّ حقيقي. قد لا تكون الضربة مدمّرة من الناحية التقنية، لكنها كانت رمزية بشكل قاطع: حتى أنتم، يا أصحاب العمق الاستراتيجي، لستم محصّنين.
هذا الحدث، ومعه صدمات أخرى مثل سقوط قيادات أو اغتيالات متكررة، أطلق لحظة قلق داخلي. ليس خوفاً بالمعنى الفوري، ولكن اهتزازاً في الصورة التي ترسمها لنفسها ككيان لا يُخترق.
هي تمرّ الآن بلحظة ارتجاج في درع أيديولوجيتا الشمولية. تبخّر شعورها الدائم بالقدرة على الصمود مهما كان الثمن.
إيران اعتقدت، بعد اغتيال سليماني وحرب أوكرانيا وتوسّع محورها، أنها في موقع قوة محصّنة.
لكن القصف الإسرائيلي لمجمع نووي في أصفهان – رغم ضآلة الأثر العسكري – فتح شقّاً في جدار الغرور.
لحظة إسرائيلية صغيرة داخل إيران. ليست لحظة «أنا خائف»، لكنها لحظة: «هل يمكن أن أُمسّ أنا أيضاً؟». هي بداية التحوّل الوجودي. خاصة أنه جرى في قلبها، دون ردع، وكأنها أصبحت مكشوفة.
اهتزت الصورة التي ترسمها لنفسها ككيان لا يُخترق.
هل الخوف علامة ضعف؟..
لا. الحكاية تقول العكس تماماً. فالرجل الذي لا يعرف الخوف ليس ناضجاً، بل ناقص. لا يعرف حدود ذاته ولا احتمالات موته، ولا معنى أن يكون إنساناً في عالم غير مضمون. الخوف هنا هو ما يُكمل الوعي، وهو ما يجعل القوة متزنة، أخلاقية، لا عدوانية متهورة.
حين بدأت إسرائيل تشعر بالخوف، كشفت عن جُرحها البشري. وحين بدأت إيران تدرك أنها ليست منيعة، انفتح أمامها خيار جديد: أن تعيد النظر، لا فقط في أدواتها، بل في مبررات وجودها العسكري والأيديولوجي.
هل يتغيّر العالم حين يشعر الأقوياء بالخوف؟..
ربما. لأن الشعور بالخوف، إذا قُرئ بعين ٍ مسؤولة، قد يُنتج تراجعاً عن العنف، تفهّماً للآخر، واستعداداً للتسويات. إسرائيل التي جرّبت أخيراً ما يعنيه أن تكون الضحية، قد تفكر مرتين قبل أن تصنع مآسي جديدة. وإيران، التي تلمّست هشاشتها، قد تدرك أن الخوف الحقيقي ليس في فقدان النفوذ، بل في فقدان الداخل.
ملاحظة:
حول تصريح ترامب المتعلق بمحاكمة نتنياهو واعتبارها مسيّسة، والتي فتحت باب النقاش الداخلي واسعاً حول القضاء وحول حرب غزة، فهي على الأرجح نافذة لتشجيع المعارضة، ولمساعدة نتنياهو للاستقلال عن اليمين المتطرف، والتعامل بجديّة مع إيقاف حرب غزة، والقبول بفتح الطريق أمام حل الدولتين، ولو بعد حين. هذا إذا استغلت الفرصة، وتوحّدت القوى الفلسطينية لدعم الموقف العربي.
ترامب يريد حل الصراع الفلسطيني – الإسرائيلي. وهذا ما يُعدّ أقصر طريق الى جائزة نوبل إذا نجح بذلك.
