ما يجري في العلاقات الدولية اليوم أمر مُشوّق ومُلفت… باختصار سقوط المغامرة في دونيتسك فتح باب جهنم على سوريا في نظر مراقبين روس. لقد آن الأوان فعلياً لتطبيق اتفاقيات مينسك، وتطبيقها يعني باختصار تحطّم كلّ ما رسم للحرب العقيمة هناك، فعجباً من حرب فاشلة تشنّ على شعب شقيق، والعجب الأكبر من حرب تشنّ على بلد بعيد من أجل أقلية حاكمة خلف البحار. سقط الحلم الذي سعى إليه فلاديمير بوتين وماكينته الإيديولوجية حول نظرته لما قيل عنها «نوفويا روسيا»، روسيا الجديدة في فضاء الإتحاد السوفياتي السابق – روسيا الكبرى، والآن انتقل الى تحقيق حلم آخر، هو روسيا العظمى خلف البحار.
لقد أطاحت اتفاقيات مينسك بما درج الإعلام الروسي على تسميته بـ«روسكي مير» العالم الروسي»، لقد اختفى وانتهى الى غير رجعة حتى أنّ أحداً بات لا يتذكّره اليوم ولو بكلمة، وسُحب من التداول الاعلامي كلّ التحليل الذي كان يقول بقرب انهيار أوكرانيا وانقسامها بين شرق وغرب، حتى إنّ مجرد التفكير بتغيير النظام في أوكرانيا وتحويلها الى فيديرالية سقط، وإن ما زال الحلم يراود بعضهم في انتظار المزاد الذي ستفضي إليه الحملة السورية.
هنا السؤال الهم.. لماذا هذا الاستسلام البوتيني المفاجئ؟ من الواضح أنّ لذلك أسبابه المتعدّدة، منها أولاً الخوف من عقوبات وحصار غربي وأوسع نطاقاً وتحديداً في التكنولوجيا الحربية، ومن مفاعيل أزمة اقتصادية كارثية وروسيا على اعتاب انتخابات محلية كبرى.
ثانياً: فقدت الحرب مبرّراتها على اعتبار أنّ أحداً لم يقتنع لماذا نشأت ومن أجل أيّ من الاهداف، ذلك أنّ الحروب السلافية-السلافية طوتها القرون، وليس هناك مَن يريد صارع الصراع والتقسيم، بحيث إنّ قوة منعة الشعبين، أفشلت مخطط جرّ المحافظات الاوكرانية الى حروب محلية من خلال استحضار كلّ مسبّباتها التاريخية والقومية والأخطر الدينية (كاثوليك – أرثوذوكس).
فعلى رغم مباركة الكنيسة الروسية لخطوات بوتين في أوكرانيا، إلاّ أنّ الكنيسة الأرثوذوكسية في كييف انقسمت على بعضها، ولم تقبل مخططات التقويض والشرذمة ونسف أسس العلاقات الأخوية والأهم العرقية، كما لم تعلن أيّة محافظة أوكرانية انضمامها الى روسيا الكبرى، فلا محافظة أوديسا فعلتها، ولا دينيبروبيتروفسك، رغم أنّ أحداً لا يخفي التناقض التاريخي بين غرب وشرق أوكرانيا، فضلاً عن أنّ الواقع الإقتصادي المتردّي لم يقدّم عناصر جذب للإقدام على هذه الخطوة، فآثرت محافظات كثيرة البقاء ضمن الحاضنة الأوكرانية.
سقوط صورة المشاكس
العامل الأهم بنظر المحللين وهو الذي أحبط ما هو مرسوم بوتينياً، أنّ الرجل لم يكن ليظن أنّه سيواجه عزلة عالمية وعقوبات، أو أنّه سيفقد وضعية الدولة الكبرى التي تؤثر في رسم السياسات العالمية. لقد أسقطت الأزمة الأوكرانية وضعية الرجل الذي يهاتر الغرب ويشاكسه في كلّ شاردة وواردة، ويحتقر رؤساءه من المستشارة الألمانية أنجيلا ميركيل الى الرئيس الفرنسي فرنسوا هولاند، ويتهكّم على سلوكيات الرئيس الأميركي باراك أوباما. تحطمت هذه السطوة، هذه الصورة التي عمل عليها الرجل منذ أن أتى الى الحكم وحرص على التمسك بها حتى في أعقد الازمات.
هنا يكمن بيت القصيد… لقد حُشر الرجل في الزاوية، وبات قلائل في العالم يريدون مخاطبته وتقديم العروض له، ووفق اعتقاد الكثير من المحللين، فإنّ الرجل لهث بقوة وسعى للخروج ممّا حشر فيه بأيّ ثمن مهما كانت نتائجه التدميرية.
لهذا السبب بالذات وضع لنفسه أجندة أخرى، عنوانها الحرب على الإرهاب وسحق تنظيم الدولة في سوريا والعراق، بالتزامن مع حملة قوية في الداخل لاقناع الكمّ المطلوب من الناخبين على أعتاب انتخابات الدوما»، بجدوى ما فعل، تحت شعار «أنظروا نحن مَن يرسم، نحن مَن نفرض شروطنا، عليهم هم أن يرضخوا، هم مضطرون الى سماعنا، نحن أقوى، نحن نقول ونفعل».
الأهم أنّ الرجل يعي تماماً أنه ليس بقادر على خوض حربين على جبهتين، لقد ولّى هذا الزمن، فإمّا أوكرانيا أوسوريا، لكنّ المشكلة أنّ هاتين الحربين افتُعلتا تحت اسم عمليات خاصة وليست حروباً، ودُبّرتا بليل من أجل الإتجار والمساومات اللاحقة.
ما تظهره الضربات العسكرية في سوريا الى الآن أنّ لا تدخل برّياً، والحرب ليست لتعليق مشانق المعارضين على رغم هول القصف، بقدر ما هي حرب لإعادة التوازن من أجل المزاد المنتظر في التسوية المرتقبة على ما يسمى المرحلة الانتقالية.
إذاً هي حرب التوازن الدقيق الذي يجب اتقانه، وهو نفسه ما فرض اتفاق الإطار مع رئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتنياهو حول تحقيق التوازن الداخلي بالتدخل كلّ عند حاجته.
أن تتاجر يعني أن تحصل على ثمن جيوسياسي، لكي تعيد هيبتك. والتجربة تقول إنّ حرب استعادة الهيبة لم تفلح حتى مع الأميركيين في العراق وهم الأكثر قوة عدة وعديداً، لكن ما هو الثمن؟
يؤكّد مطلعون وكتاب روس أنّه سوف تدور التسوية على رأس بشار الأسد، فإما أن تاتي تقويته بعض الوقت للكسب الاكبر، أو أن يُصار الى إرساله الى أوسادبا»، أيْ عزبة في القرم للمشاركة في المغانم اللاحقة وهو الثمن الأقل، أو تسليمه الى المحكمة الجنائية الدولية.
على ما يبدو فإنّ الأميركيين يفهمون الى الآن حجم اللعبة الروسية وابعادها، ويتعاملون مع السلوك الروسي على هذا الأساس. فالكلام عن تخبّطهم وارتباكهم هو مجرد كلام استهلاكي عاطفي، فإذ بهم لم يعبّروا البتة عن فرحتهم بقدوم حليف ينضمّ إليهم في معركتهم ضدّ «داعش «وصمتوا مترقبين الاسبوعين الأوّلين من الحملة ليخلطوا الاوراق مجدّداً.
المشكلة أنّ العناد الروسي سيعقبه مزيد من الإجراءات والعقوبات، ومزيد من الدماء والقهر، واحتمال عودة موجة الإرهاب المتطرفة في المدن الروسية. أمّا الثمن المطلوب فالمؤشرات تقول إنّ الذي سيقبضه هو الغرب واميركا، بينما بوتين وقّع على شيك من دون رصيد، بدليل أنّه لم يقدّم تصوّراً عن نهايات حملته ومدّتها.
وبالتالي يمكن التريّث لشهر او شهرين او ثلاثة.. لا ضيرَ في انتظار أن يغرق الدب الروسي في الرمال السورية، وهذا أكبر الأثمان لمواجهة طموحات كبرى تودّ أن تنهي عصر القطب الواحد بطريقة القصف الجوي، وهو ما لم يتحقق في الحروب الحديثة لا في افغنستان ولا في لبنان ولا في العراق.