تغصّ شوارع صيدا بحركة نشطة استعداداً للانتخابات البلدية والاختيارية اليوم، وسط زحمة سير خانقة وانتشار الصور والمكاتب الانتخابية في الأزقة، فيما يندر أن تخلو سيارة من صورة مرشح بلدي أو اختياري في المدينة التي تتحوّل في كل استحقاق إلى قرية كبيرة، يطغى فيها الطابع العائلي ويعلو صوت العصبيات.
غير أن «عاصمة الجنوب» تستعد هذه المرة لمعركة مختلفة، مع تراجع الاصطفافات التقليدية التي طبعت الانتخابات البلدية سابقاً، بعدما اختار سياسيّو المدينة، كالنائبين أسامة سعد وعبد الرحمن البزري والنائبة السابقة بهية الحريري، عدم الانخراط المباشر في اللعبة.
فلا ماكينات حزبية فاعلة، ولا مرشحين حزبيين على اللوائح، ما أدّى إلى انفلات حبل الترشيحات على غاربه، ليقارب عدد المرشحين المئة، موزّعين على خمس لوائح أو منفردين، يتنافسون على 21 مقعداً بلديّاً.
ويتوزع المرشحون على ثلاث لوائح أساسية مكتملة:
– «سوا لصيدا» برئاسة عضو المجلس البلدي مصطفى حجازي، وهي تميل إلى أجواء «تيار المستقبل» من دون دعم رسمي من الحريري. كما تحظى بدعم من حزب «القوات اللبنانية»، ورجل الأعمال مرعي أبو مرعي، إضافة إلى رئيس البلدية السابق محمد السعودي والمرشح النيابي السابق يوسف النقيب اللذين شاركا في حفل إطلاقها. وسُجّلت أيضاً مشاركة منسّق تيار المستقبل في الجنوب، مازن حشيشو.
الخرق الذي حقّقه محمود الجمل في بيروت ضاعف حماسة «الحريريين» للاصطفاف خلف حجازي
– «نبض البلد» برئاسة الناشط محمد دندشلي، وتضم مجموعة من مرشحي المجتمع المدني، وتحظى بدعم علني من النائب أسامة سعد الذي حضر أيضاً حفل إعلان اللائحة.
– «صيدا بدّها ونحنا قدّها» برئاسة الصيدلي عمر مرجان الذي يسعى إلى تقديم نفسه كخيار من خارج الاصطفافات السياسية التقليدية، فارضاً إيقاعاً خاصاً على ترشيحاته. ومع ذلك، تكثر التساؤلات في المدينة عن مصادر تمويل حملته، نظراً إلى ما يصفه أبناء صيدا بـ«البذخ» اللافت في الإنفاق الإعلامي والإعلاني على الحملة.
كذلك تبرز لائحة «صيدا تستاهل» (غير مكتملة، مؤلّفة من 16 مرشحاً)، المدعومة من الجماعة الإسلامية وبعض العائلات الصيداوية. وقد شُكّلت بعد فشل المفاوضات بين الجماعة واللوائح الأخرى، خصوصاً لائحة مرجان.
وفيما يؤكد متابعون أن الأخير رفض ضمّ مرشحي الجماعة إلى لائحته بضغوط سعودية، يقول مقرّبون من مرجان ومن اللوائح الأخرى إن السبب الحقيقي لاستبعاد الجماعة يعود إلى «الشروط التعجيزية» التي طرحتها كمطالبتها بخمسة مقاعد ونائب رئيس.
وإذا كانت «صيدا تستاهل» لا تُعد من اللوائح الأساسية، فإنها تحظى ببلوك انتخابي صلب في المدينة، مدعوم من قواعد الجماعة وعدد من العائلات الصيداوية. في المقابل، تبدو لائحة «صيدا تستحق» برئاسة مازن البزري، والمؤلّفة من سبعة مرشحين فقط، الأقل حظاً بين اللوائح، خصوصاً أن رئيسها، المُقرّب من النائب عبد الرحمن البزري، لم يحظَ بدعمه العلني مع وجود مرشحين منفردين، مثل وليد العاصي مرشح حركة «مواطنون ومواطنات».
تعدّد اللوائح وكثرة الترشيحات، قد يرفع مستوى المشاركة، وسط زخم انتخابي ظهر قبل فتح الصناديق. لكن الارجح، ان يؤدي تعدد اللوائح إلى تشتت الأصوات، ما يصعّب على أي لائحة الفوز بكامل أعضائها. ويُخشى أن يطيح ذلك بالعُرف الذي يضمن تمثيلاً طائفياً متوازناً في المجلس البلدي، وسط خشية جدية أن يتم الاطاحة بأربعة مقاعد موزّعة بالتساوي بين المسيحيين والشيعة. خصوصا وان «التشطيب» يشكل الوسيلة الابرز عند العائلات المتنافسة حتى داخل اللائحة الوحدة.
بروفا «قواتية»
المخاوف من احتمال استبعاد الأعضاء الشيعة والمسيحيين عن عضوية المجلس، دفع بـ«القوات اللبنانية» الداعمة للائحة حجازي، لاطلاق حملة تحذيرية من انهيار العُرف البلدي، بهدف حشد الناخبين المسيحيين، خصوصاً أن النسبة الكبرى منهم تقيم خارج صيدا. وقد وعدت النائبة غادة أيوب بتأمين وسائل نقل للناخبين المسيحيين إلى المدينة يوم الاقتراع، في خطوة يراها مراقبون بمنزلة «بروفا» انتخابية تمهيداً للمعركة النيابية المقبلة، خصوصاً بعد موجة الانتقادات التي طاولت أيوب بسبب مواقفها الطائفية، وسعيها إلى إعادة رسم حضورها السياسي وبناء تحالفات انتخابية جديدة.
في المقابل، يشير مراقبون إلى أن تأثير «القوات اللبنانية» لا يزال خافتاً نسبياً في المشهد الصيداوي، وقد لا تظهر نتائجه إلا إذا نجحت أيوب فعلياً في تأمين مشاركة مسيحية كثيفة. أما تدخّل رجل الأعمال مرعي أبو مرعي فيبدو أكثر وضوحاً، خصوصاً مع ترشيح صهره، أحمد عكرة لمنصب نائب رئيس البلدية. وحيث يسود الاعتقاد بان ابو مرعي كان قناة التواصل بين لائحة حجازي وبين «القوات اللبنانية».
أما الناخبون الشيعة، فعلمت «الأخبار» أن الثنائي حزب الله وحركة أمل لم يحسم خياره بعد. ويرجح بقوة، أن يترك للناخبين حرية الاختيار، خصوصاً أن الحزب الذي يشكل القوة الأبرز بين شيعة المدينة، لا يريد أن يحسب على لائحة بعينها، ولديه صداقات وعلاقات مع عدد كبير من المرشحين المنضوين في أكثر من لائحة. وهو موقف أبلغه مسؤولون في الحزب إلى جميع رؤساء اللوائح، في لقاءات عقدت خلال الأيام القليلة الماضية.
«المستقبل» مع حجازي… بلا تفويض مباشر
تيار المستقبل، من جهته، يميل إلى دعم لائحة حجازي، ولا يُحبّذ التدخل العلني لـ«القوات اللبنانية»، ولو من باب الدّعم اللفظي. إلا أن لا مؤشرات جدّية على إمكان لجوء «بلوك» المستقبل إلى تشطيب أي مرشح مسيحي يُشتبه في ارتباطه بـ«القوات».
وما يعزّز هذا الانطباع هو عدم وجود إيعاز علني من النائب الحريري بدعم لائحة حجازي، كونها تلتزم موقفاً حيادياً ظاهرياً، لكن الجميع في المدينة يتصرفون على اساس ان حجازي هو الممثل الفعلي لتيار المستقبل في هذه الانتخابات.
سيما وان المسؤول السابق في التيار يوسف النقيب، وافق على تشغيل ماكينة انتخابية لدعم حجازي، وهي الماكينة التي تجند للعمل فيها، اركان من ماكينة ال الحريري في المدينة.
لذلك، لا يمكن إنكار الحضور الفعلي للبيئة «الحريرية» ولمفاتيح انتخابية محسوبة على التيار حول حجازي، كما ظهر جلياً في المهرجان الجماهيري الذي دعت إليه اللائحة أول أمس في «واحة زهر الليمون»، برمزيتها الحريرية، وبحضور وجوه صيداوية معروفة بولائها لمجدليون.
ويبدو أن الخرق الذي حقّقه القيادي السابق في التيار محمود الجمل في انتخابات بيروت الأحد الماضي، ضاعف حماسة أنصار الحريري في صيدا للاصطفاف خلف حجازي، رفضاً لمحاولة إقصاء «الحريرية» عن الساحة السياسية، علماً أن اعتكاف الرئيس سعد الحريري وابتعاد «المستقبل» عن جمهوره لا ينسحبان على صيدا، حيث تختلف شخصية النائب السابق بهية الحريري عن بقية قيادات التيار، ولديها الهامش الاوسع للتحرك في المدينة.
ما سمح لها بتعويض اعتكافها السياسي في العامين الماضيين، بحضور دائم على الأرض، عبر نشاطات اجتماعية وخدماتية، ما ساعدها في تمتين نفوذها لدى القاعدة الشعبية، رغم الغياب القسري للحريري عن المشهد.
وبناءً على ذلك، يرجّح البعض أن تكون معركة صيدا مختلفة عن بقية المناطق، وأن تصبح «التوجيهات الزرقاء» أكثر علنية وأن ينتقل «الحريريون» من تحت الطاولة إلى فوقها.
لائحة مرجان: دعم سعودي أم تموضع مستقلّ؟
وعليه، يرجّح متابعون أن تشهد صيدا معركة ضارية، عنوانها الرئيسي مواجهة «الحريريين»، في ظل حديث متصاعد عن دعم سعودي للائحة مرجان لكسر النفوذ «الحريري» وإقصاء «مجدليون» عن المشهد، وسط ماكينة انتخابية «سخية»، وحملات إعلاميّة وإعلانيّة ضخمة، ومواكب سيارات و«توك توك» تجوب الشوارع حاملة صور المرشحين.
ما عزز التخمينات حول الموقف السعودي، ما نسب الى مرجعية في المدينة تقول، بان النائب عبد الرحمن البزري الذي رفض التحالف مع اللائحة المدعومة من النائب اسامة سعد، انما فعل ذلك بايحاء من السفارة السعودية في بيروت. وعندما سئل البزري عن الامر قال انه على تواصل مع السفير السعودي وليد البخاري، ولكنه لم يسمع منه كلاما عن الانتخابات في صيدا، وانه لن يتدخل في الانتخابات، ولو ان قريبين منه يظهرون دعمهم لمرجان اكثر من الاخرين.
كذلك ينفي المقرّبون من مرجان وجود دور سعودي، ويؤكدون أن اللائحة مستقلة، بعيداً من أي تدخل سياسي، وانه عقد اجتماعات مع كل القوى السياسية في المدينة، وابلغ الجميع انه لا يريد حزبيين في لائحته. بل يريد فريق عمل من الشباب ذوي الخبرة. لكن خصوم مرجان يصرون على وجود بصمات للنائب البزري، من خلال مفاتيح انتخابية مقرّبة منه، تعمل ضمن ماكينة اللائحة، ما يفسّر – بحسبهم – إحجامه عن دعم لائحة مازن البزري، رغم القرب العائلي والسياسي بينهما.
ويستعيد البعض تجربة عام 2004، عندما تمرّد البزري على بهية الحريري بدعم خارجي، وفاز برئاسة البلدية بعد معركةٍ خاضها في وجهها. وبينما ينكر محيط البزري أي علاقة مباشرة له بلائحة مرجان، تتجه الأنظار إلى دور محتمل أيضاً للنائب فؤاد مخزومي، الذي يُشاع أنه يموّل مرجان لتوسيع نفوذه خارج بيروت، رغم نفي مرجان أي ارتباط له برئيس حزب «الحوار الوطني».
«نبض البلد»: لائحة إنمائيّة بنَفَسٍ مدني
على عكس اللوائح الأخرى التي تستند إلى اصطفافات سياسيّة غير مُعلنة، تبدو لائحة «نبض البلد» وفيّة لاسمها، إذ تنبع من النسيج الصيداوي المدني وتضمّ شخصيّات تحمل هموم المدينة وقضاياها العامة، وعلى رأسها المهندس محمد دندشلي، إذ يُعدّ «أبو سلطان» من رموز العمل البيئي منذ عقود، وتلتقي أفكاره مع تطلعات غالبية مرشحي اللائحة، ومعظمهم من الشباب والشابات البعيدين عن التلوينات الحزبيّة وممّن يطرحون رؤية إنمائية واضحة تركّز على الخدمات العامة والمشاريع الحيويّة، إضافة إلى تمثيل نسائي لافت، إذ تضم اللائحة 9 نساء من أصل 21 مرشحاً، وهو ما تفتقده اللوائح الأخرى.
الماكينة الانتخابيّة للائحة تبدو منظّمة وفاعلة على الأرض، وقد استعان دندشلي بعدد من الخبراء ودرّب شباناً على العمل الميداني، مستفيداً من خبرته السابقة في خوض الانتخابات. هذا التنظيم انعكس تفاعلاً إيجابياً في الشارع الصيداوي، الذي بدا مُنجذباً للطرح الجديد المختلف عن السائد.
ورغم أن اللائحة تحظى بدعمٍ واضح من النائب سعد، إلا أن الأخير اختار أن يتصرّف كناخب لا كراعٍ سياسي، مبتعداً عن التدخل في الأسماء والتفاصيل، ورافضاً ضمّ أي منتسب إلى التنظيم الشعبي الناصري، ما منح دندشلي هامشاً واسعاً في تشكيل اللائحة وبناء تحالفاته، وأسهم في الحفاظ على الطابع المدني للائحة. هذه الإستراتيجية تعكس رغبة سعد في إبقاء اللائحة بمنأى عن الاصطفافات الحزبيّة، لتكون أقرب إلى جمهور الناخبين من مختلف الانتماءات.
