IMLebanon

من فيشي إلى حكومة سلام

 

كريم حداد

 

في صيف 1940، حين سقطت فرنسا أمام الجيش النازي في ستة أسابيع، لم تكن البنادق وحدها هي التي حسمت المشهد. كما يوضح روبرت باكستون، «النظام الجديد لم يكن مجرد كابوس فرضه المحتل، بل كان ثمرة صراعات فرنسية داخلية وأحلام قديمة لإعادة تشكيل المجتمع». لقد حملت حكومة فيشي، بقيادة المارشال بيتان، شعار «الثورة الوطنية»، ولكنها كانت في العمق تعيد صياغة المجتمع والقرار ضمن حدود رسمتها قوة أخرى، وأحياناً بما يتجاوز ما طلبته.

 

يصف جوليان جاكسون كيف ظلّت الأطر الشكلية للجمهورية قائمة، ولكن «الشرعية القانونية كانت غطاءً لتغيّر جوهري في طبيعة السلطة، حيث أصبح القرار السياسي مقيداً باتفاقات وإملاءات غير معلنة». السيادة، في هذا السياق، تتحول إلى مسرحية بروتوكولية، بينما القرارات الجوهرية تُصاغ في مكان آخر.

 

هذا النمط ليس غريباً عن زماننا. فالحكومات التي تتلقى إشاراتها من الخارج تُتقن فنّ التبرير: «نحمي الوطن من الأسوأ»، «نشتري الوقت»، «نحافظ على الاستقرار». لكن خلف هذه اللغة المطمئنة، تتآكل قدرة القرار الوطني خطوة خطوة.

 

من الشريك إلى التابع

كما يبيّن وليام شيرر، قادة فيشي لم يكونوا دائماً مكرهين. «لقد كان بيتان ورفاقه يرون في التعاون فرصة لترتيب الداخل على النحو الذي يشتهونه، مستخدمين الغطاء الألماني لتحقيق ما لم يكن ممكناً قبل الاحتلال». هكذا تماهت خطوط المصلحة الوطنية المعلنة مع إملاءات القوة المحتلة، وأصبح «التعاون» خياراً إستراتيجياً لا مجرد انحناء أمام العاصفة.

أليس هذا مألوفاً اليوم، حين تستخدم بعض الحكومات مظلة النفوذ الخارجي لترتيب الداخل، وقمع المعارضين، وإعادة هندسة المجال السياسي بما يخدم استمرارها؟

 

لكن أكثر ما يكشف حقيقة السلطة هو اختيارها للفئات التي تُقصيها. كما يوثق ماروس وباكستون، «شرعت حكومة فيشي في سنّ قوانين ضد اليهود قبل أن يفرضها النازيون، مُخرجةً إياهم من الوظائف العامة، وقلّصت حضورهم في المهن الحرة، وصادرت أملاكهم». لم تكن هذه الخطوات استجابة مباشرة فحسب، بل جزءاً من «إعادة صياغة» المجتمع لتطابق تصور السلطة والراعي الخارجي معاً.

اليوم، قد لا تكون الفئات المستهدفة هي نفسها، ولكن المبدأ واحد: السلطة التي تستمد قوتها من الخارج تجد دائماً كبش فداء داخلياً تُعيد عبر استهدافه تعريف من ينتمي إلى الوطن ومن يُقصى عنه.

 

هنري روسو وإيريك كونان يشرحان كيف أعادت فرنسا، لعقود، صياغة ذاكرتها عن فيشي، فاختزلت التعاون مع الاحتلال إلى «قلة من الخونة»، وروّجت صورة وطن قاوم من اللحظة الأولى. ويعلق باكستون في تقديمه لكتاب روسو: «اختيار الذاكرة ليس بريئاً، إنه أداة سياسية بامتياز».

 

هذا «التأريخ المريح» ليس غريباً عن زمننا أيضاً، إذ تميل الأنظمة التابعة إلى إنتاج رواية رسمية تمجّد «حكمة القيادة» وتغضّ الطرف عن الثمن الفعلي الذي دُفع في الاستقلال والسيادة.

 

حكومة فيشي ليست مجرد فصل في كتاب التاريخ؛ إنها نموذج متكرر. فالاحتلال لم يكن دائماً بمدرعات وجنود، بل قد يأتي على هيئة «شراكة إستراتيجية»، أو «وصاية مالية»، أو «ضمانات أمنية». كما كتب شيرر، إن «أخطر ما في فيشي أنها لم تُفرض بالكامل من الخارج، بل صُنعت بأيدٍ داخلية راضية». وحين يُعاد تشكيل القرار السياسي ليتوافق مع معايير المانح أو الحامي الخارجي، تصبح الحكومة واجهة أنيقة لمصالح غيرها.

 

صدى التاريخ في الحاضر

في المشهد اللبناني الراهن، يطلّ نموذج يذكّر بما قرأناه في كتب التاريخ: حكومة تتشكل تحت عناوين إنقاذ الاقتصاد و«إعادة الثقة» و«بسط سيادة الدولة و حصر السلاح بيدها»، ولكنها تتحرك وسط شبكة معقدة من الاشتراطات الخارجية، من صندوق النقد إلى الدول المانحة أو عواصم قرارها. وكما في فيشي، حيث كان «المشروع الوطني» يقدَّم في قالب سياسات متوافقة مع إملاءات الاحتلال، نجد اليوم خطاباً يَعِد بالإصلاح ولكنّه يلتزم – بحكم الضرورة أو الاختيار – بشروط صاغها الخارج، ويضعها في مرتبة «المصلحة العليا».

 

هنا، كما هناك، يُستدعى شعار «الواقعية» لتبرير الخطوات، ويُصوَّر القبول بالإملاءات كـ«ثمن لا بد منه» لتفادي الانهيار. لكن التجربة التاريخية تُذكرنا أن السير في هذا الطريق، مهما كان مبرراً في بدايته، قد يقود إلى أن تصبح الحكومة مرآة لمصالح غيرها، فيما يُترك للشعب دور المتفرج على مسرح السيادة.

 

لكن من قال إنّ الشعب يبقى متفرّجاً و لا يطيح مسرح العبث والوهم؟